إعلانات

ضع ماتريد هنا


درس الدولة مجزوءة III: السياسة حصري على أحلى باك




مجزوءة III: السياسة
                                            1-الدولة
 
تقديم المجزوءة الثالثة
يتحدد الإنسان بصفته كائنا فاعلا يعمل على الاستجابةلحاجاته الحيوية ضمن الشروط الطبيعية والاجتماعية المُحدِّدة لوجوده، حيث إنه يجدنفسه - في خلال سعيه لتحقيق حاجاته- متفاعلا، ليس فقط مع الظروف الطبيعية لوسطه،وإنما أيضا مع أعضاء المجتمع حيث يعيش، مما يجعله بالضرورة "كائنااجتماعيا". وتتعلق الشروط الطبيعية أساسا بمجموع شروط الوسط البيئي حيثيُقَدَّر للإنسان أن يعيش، وهي شروط يطبعها التغير والندرة، مما يضطر الإنسان إلىالاجتهاد على نحو تنازعي وتنافسي لتحصيل حاجاته. ومن هنا تتكون الشروط الاجتماعيةالتي تجعل وجود الإنسان وجودا جماعيا وتفاعليا. وكون الوجود الإنساني مُحاطابأسباب طبيعية واجتماعية تقود إلى النزاع والصراع هو الذي يؤدي إلى التفكير فيموضوع "السياسة" بما هو موضوع يرتبط بتدبير الفعل الجماعي القائم أصلاعلى النزاع بغية تفادي تدمير الحياة (أي العنف) بإقامة شروط مدنية للعيش تجعلللناس مصلحة في السلوكـ وفق ما يقتضيه التنظيم السياسي للمجتمع (أي الدولة) القائمعلى مبدإ "الشرعية" (أي الحق) الذي يضمن المساواة والإنصاف بين كلأعضائه (أي العدل).     
المفهوم الأول: الدولة
* تقديم مفهوم الدولة
تمثل "الدولة" (Thestate, L’Etat) هيئة علياتفرض سيادتها، من خلال ممارسة السلطة، على مجتمع إنساني بشكل يُمكِّنها من ضمانوحدته واستمراره إزاء الأخطار المُهدِّدة داخليا (التمزق والصراع المفتوح) وخارجيا(الحرب والحصار)، ويُمكِّنها كذلكـ من تمثيله بالخارج سواء على المستوى الإقليميأو على المستوى العالمي. وتتحدد "الدولة"، في الواقع، باعتبارها مجالالتكوُّن واشتغال مجموعة من "المؤسسات السياسية" التي تقوم بـ"تمثيل"إرادة الشعب أو الأمة (الرئيس أو الملكـ، الحكومة، مجالس التمثيل النيابي) وبـ"إدارة"شؤون المواطنين والبلاد (وزارات، وِلَايات، عمالَات، هيئات، مرافق). وهكذا، فإن"الدولة" تُعَدُّ تنظيما قانونيا ومُؤَسَّسِيا وسياسيا لكل ما يتعلقبـ"الشأن العام" الخاص بشعب أو أمة على امتداد حدود ترابية معينة. إنهاتُجسِّد "الإرادة العامة" لأعضاء المجتمع بما هي إرادة تَدُلُّ وتسمو فيآن واحد على "الإرادات الفردية" لهؤلاء الأعضاء الذين هم "مواطنون"(أحرار ومُتساوُون) في حماية ورعاية "الدولة" بما لها من موارد وصلاحياتتُمَكِّنُها من التدخل والفعل على النحو الذي يُحقِّق "المصلحة العامة"بالنسبة لكل المواطنين الذين يلتزمون بالمساهمة في التكاليف الضرورية لقيام واستمرار"الدولة" وأيضا باحترام صلاحياتها واختصاصاتها أملًا منهم في ضمانحقوقهم على أحسن وجه ممكن. وهكذا فإن "الدولة" قدرة على الإلزام المشروعوعلى حماية حقوق المواطنين في الأمن والحرية والعدل. وبهذا، فهي تُمثِّل أحد أهمالمكتسبات العقلانية الذي أدى إليها التراكم الاجتماعي والثقافي عبر آلاف السنينمن التطور التاريخي للإنسانية في هذا العالم.       
* الوضعية-المشكلة
يجعلنا تناول موضوع "الدولة" نطرح جملة منالأسئلة الإشكالية: هل تُعَدُّ "الدولة" خاصية طبيعية للمجتمع الإنسانيأم أنها بناء تاريخي وثقافي؟ ما الذي يُعطيها الحق في الوجود والفعل؟ على ماذاتقوم مشروعيتها؟ هل على أسباب تاريخية أم على وظائف وغايات مُحدَّدة يُفوَّض إليهاأمرُ تحقيقها والقيام بها؟ ما طبيعة السلطة السياسية؟ هل هي امتياز شخصي وخاص أمهي آليات مُؤسَّسِية لتوزيع الموارد ذات القيمة في مجال اجتماعي وتاريخي معين؟ ماعلاقة "الدولة" بـ"العنف" و"الحق"؟ هل تُمارِسسلطتها على أساس "القوة" و"العنف" أم على أساس"الحق" و"القانون"؟ 
1- مشروعية الدولة وغاياتها
* تحديد الإطار الإشكالي: منأين تستمد "الدولة" مشروعيتها؟ هل من قدرتها على ضمان "الأمن"و"الحقوق" أم من كونها قوة إلزامية وقمعية؟ ما هي الغايات التي وُجدت"الدولة" من أجل تحقيقها؟
* مفاصل المعالجة:
تبدو "الدولة" أمرا بديهيا من حيث إنها السلطةالتي تجعل الوجود الجماعي للإنسان ممكنا. لكن "الدولة" ليست واقعامُلازِما للوجود الجماعي للإنسان. إنها نتاج حديث إلى حدٍّ بعيد، نتاج يمثل مآلآلاف السنين من التطور التاريخي والاجتماعي للبشرية. ونجد أن فلاسفة "العقدالاجتماعي" (توماس هوبز، باروخ إسـﭙينوزا، جون لوكـ، جون-جاكـ روسو) عملوابين القرنين 17 و18 على تأسيس مشروعية "الدولة" انطلاقا من فرضية"حالة الطبيعة" (l’état de nature). إذ أنهم افترضوا أن تصورالإنسان خارج المجتمع يُعطيه "حقا طبيعيا" يجعله يتصرف بحرية كاملة حسبما تُمليه عليه رغباته وفي حدود ما تسمح به قدرته على الفعل. وهذا يؤدي إلى ربطالحق بالقوة، أي أن الحق يكون للأقوى. ومن هنا فإن "حالة الطبيعة" تؤولبالضرورة إلى تهديد حقيقي للوجود الإنساني، مما يُوجب التفكير في الخروج منهابالتخلص من "الحق الطبيعي" (إن كلًّا أو جزءا) بتفويضه لـ"حاكمأسمى" تصير له "السلطة" التي يجب أن يخضع لها الجميع خوفا منالعقاب أو طمعا في مكاسب أعظم ليس أقلها حفظ الحياة والاستمرار في الوجود. وهكذا،فإن تصور "حالة الطبيعة" يُمَكِّن من جعل قيام "الدولة" يستندإلى "عقد اجتماعي" (un contrat social) يتم بين الناس حيث يفوضون بموجبهحقهم الطبيعي من أجل تشييد المجتمع الذي تكون فيه السلطة متعالية على إراداتالأفراد وموجهة بالأساس إلى حفظ الأمن والسلم اللذين لا تستمر الحياة بدونهماواللذين يجعلان "الحرية" (بما هي جوهر "الحق الطبيعي") متحققةبشكل موضوعي.       
غير أن "فريدريكـ هيـﮕل" (1778-1831 [FriedrichHegel]) يرى أن مشروعية"الدولة" لا تقوم على حفظ السلم والأمن بممارسة السيادة كسلطة زجريةوقوة رادعة، ولا على ضمان مصالح الأفراد، إذ في هذا خلط بين "الدولة"(كمجال عمومي) و"المجتمع المدني" (كمجال خاص). إن مهمة"الدولة" لا تتمثل في حماية حقوق الأفراد (الحرية والتملكـ)، وإنما هيالمجال الذي يسمح بالتحقق الموضوعي للأفراد كذوات أخلاقية وأشخاص أحرار، فالفرد فيحد ذاته ليس له من "الموضوعية" و"الأخلاقية" إلا بقدر ما يكونعضوا في "الدولة"، حيث إن اجتماع الأفراد يُعَدُّ الهدف الحقيقي لوجودهموهو بمثابة تعاقد يُعبِّر عن إرادتهم المشتركة.      
ومن جهة أخرى، يذهب "ماكس ﭭـيبر" (1867-1920 [MaxWeber]) إلى أن البحث في أنماط السيطرةأو السلطة في المجتمعات الإنسانية يكشف عن وجود ثلاثة أشكال من المشروعية:"مشروعية تقليدية" تقوم على التقاليد والأعراف كجملة من الطرق والأساليبالتي ثبتت صلاحيتها وترسخ احترامها في الوعي الجماعي على نحو يجعلها تُسَوِّغُقيام سلطة الأب الكبير أو الشيخ ؛ "مشروعية لَدُنِيَّة" أو"كارزمية" (légitimité charismatique) تعتمد على المؤهلات الخاصة بشخص الحاكم كما تتجلى تاريخيا فيشخصية النبي أو البطل أو الزعيم بما لها من جاذبية وقدرات خارقة ؛ ثم"مشروعية عقلانية" تقوم على الشرعية القانونية التي تُحَدِّدُمهام واختصاصات الموظف في المجتمعات الحديثة بصفته خادما للدولة في إطار ما يسمحبه القانون. لكن الأمر هنا يتعلق، كما يؤكد ﭭـيبر، بنماذج مثالية لا توجد فيالواقع بشكلها الخالص إلا نادرا جدا، مما يدل على أن تلكـ الأشكال يمكن أن تتداخلوتتراكب، الأمر الذي يجعل مشروعية السلطة أو السيطرة واقعا معقدا يخضع لجملة منالعوامل الاجتماعية والثقافية التي تشتغل على نحو متكامل ودينامي في كل مجال يعرفقيام أحد أنماط السلطة أو السيطرة.   
* تركيب واستنتاج
تُعتبَر "الدولة" مجالا لقيام نوع من التدبيرالسياسي والقانوني للشؤون العامة بمجتمع معين. ومن هذه الناحية فإن مشروعيتهاتستند إلى جملة من العوامل التاريخية والاجتماعية التي تتسم بالتعدد والتنوع. لكنمشروعية "الدولة" تبقى قائمة على التعاقد الاجتماعي بين الأفراد كأعضاءفي المجتمع، وهو التعاقد الذي يُؤسِّس "المجتمع المدني" ويُمثِّل الأساسالعقلاني لقيام "الدولة" من حيث هي الإطار الواقعي والموضوعي الذييُمكِّن من تحقق أخلاقية الإنسان ككائن اجتماعي وسياسي. 
2- طبيعة السلطة السياسية
* تحديد الإطار الإشكالي:ما هي طبيعة السلطة السياسية؟ هل تنحصر في "الدولة" كمجموعة منالأجهزة التي تُمارِس الإكراه والقمع أم أنها جملةٌ من الإمكانات والقُوَى التيتتخلل المجتمع بكامله؟ وهل هي متعاليةٌ على المجال الذي تُمارَس فيه أم أنهامُلَازِمةٌ ومُباطِنة لسيرورة التفاعل الاجتماعي بمختلف مظاهره وأنواعه؟
* مفاصل المعالجة
يرى "مونتسكيو" (1689-1755 [Montesquieu]) أن كل دولة توجد فيها ثلاثةأنواع من السلطة: "سلطة تشريعية" تضع القوانين أو تُصحِّحُها،"سلطة قضائية" تفصل بموجب هذه القوانين في النزاعات القائمة،و"سلطة تنفيذية" تعمل على تطبيق الأحكام وحفظ الأمن والسلم ومعاقبةالجُنَاة والمجرمين. واجتماع هذه السلطات الثلاث في يد شخص محدد أو هيئة واحدةيؤدي إلى ضياع كل الحقوق، وبالخصوص الحرية. لهذا فإن "الدولة الحديثة"لا قيام لها من دون الفصل بين هذه السلطات على نحو يُمَكِّن من تفادي الحكمالاعتباطي على حياة وحقوق المواطنين، ومن ثم ضمان توزيع السلطة على نحو متوازن بينهيئات الدولة.
ويذهب جون لوكـ إلى أن البشر يُعَدُّون بطبيعتهم أحراراومتساوين على النحو الذي يجعل من المستحيل تحويل أي إنسان عن هذا الوضع وإكراههعلى الخضوع لسلطة إنسان آخر من دون موافقته. لذا فإنه لا بد من حصول الاتفاق بينأفراد المجتمع لقيام هيئة تكون لها صلاحية التصرف بمقتضى قرار الأكثرية. وخضوعالفرد لهذا القرار ليس خضوعا لشخص بعينه وإنما هو خضوع لقرار المجموع، خضوع يؤديإليه الالتزام الموجود في أصل العقد الاجتماعي الذي يهدف بالأساس إلى حماية حقوقالأشخاص الذين يستمرون بموجبه أحرارا ومتساوين حيث إنهم لم يُفَوِّضُوا سوى حقهمفي الدفاع عن النفس الذي تتكفل به "الدولة" كما تتكفل بحماية حريتهم وكلحقوقهم في التفكير والفعل والتملكـ والتنقل.
وعلى هذا الأساس، فإن السلطة تتمثل في"الدولة" كعدد من الأجهزة التي تتجاوز الإرادات الفردية والتي تعمل وفقالمصلحة العامة لأعضاء المجتمع. وبهذا الصدد يرى "لويس ألتوسير"(1918-1990 [Louis Althusser]) أن "الدولة" تتحدد كمجموعة من الأجهزة التي تشتغلوتتصرف على نحو يجعلها تُمارِس السلطة في المجتمع إما كأجهزة للقمع والإكراه(الجيش، الشرطة، السجون) وإما كأجهزة لتسخير فئات المجتمع بواسطة إنتاج ونشر أفكارورُؤًى تضمن خضوع الناس (مجموعة من "الأجهزة الإيديولوجية": كنائس،أُسَر، مدارس، وسائل الإعلام، أحزاب، نقابات، إلخ.).
لكن "مشيل فوكو" (1926-1984 [MichelFoucault]) يذهب إلى أن اعتبار السلطةمجموعة من المؤسسات والأجهزة (التي تُمَكِّن من إخضاع المواطنين داخل"الدولة" أو كنظام للهيمنة يُمارِسه شخص على آخر) لا يجعلنا نُمسكـبحقيقة السلطة. فهذه الأشكال من الفعل ليست سوى ما تنتهي إليه ممارسة السلطة، فيحين أن الواقع يتمثل في علاقات القُوَى المتعددة التي تكون مُلَازِمة لمجالٍ مابفعل المواجهات والصراعات التي تشمل المجتمع بكامله. ومن هنا، فإن السلطة حاضرةٌفي كل مكان من الجسم الاجتماعي دون أن تتعين في مكان بعينه. إنها لا تأتي لا منفوق ولا من تحت، بل تأتي من كل الجهات، حيث إنها سلسلة من الخُطَط أوالاستراتيجيات المتناهية الصِّغَر التي تتخلل مجتمعا برمته. وهكذافـ"السلطة" ليست سوى اسم يُشير إلى واقع اجتماعي شديد التنوع والتعقد،واقع يتجلى من خلال مجموع الأوضاع المتفاوتة التي يدخل فيها الفاعلون باستمرارأثناء مختلف تفاعلاتهم.        
* تركيب واستنتاج
تقوم "الدولة" كسلطة سياسية لها القدرة علىالفعل والتصرف بشكل يتجاوز الإرادات الفردية لأعضاء مجتمع معين، وذلكـ من خلالمجموع الأجهزة والمؤسسات التي تُجَسِّد، في الواقع الفعلي، "سلطةالدولة". لكن حتى في هذا التجسيد تبدو "السلطة" متعددة ومُوزَّعةعبر "هيئات الدولة"، مما يؤكد أنها تتعلق بالواقع الاجتماعي كنسق منالإمكانات التفاعلية والدينامية التي تُعَبِّر عن الفاعلية الإنسانية بما هيفاعلية سياسية قائمة على النزاع والتنافس في إطار مجتمع مدني يَكْفُل قيام عدد منالمجالات التي تكون مسرحا لنشوء وتطور أشكال متنوعة من الإلزام والهيمنة عبر الجسمالاجتماعي كله.  

3- الدولة بين الحق والعنف
* تحديد الإطار الإشكالي: على أي أساستُمارِس الدولةُ سياستَها؟ هل بواسطة "القوة" كما تتجلى في أجهزة القمعوالردع أم بواسطة "الحق" كمجموعة من القوانين التي تُعطي لفعل الدولةشرعيته؟
* مفاصل المعالجة
تبدو "الدولة"، بما هي سلطة قائمة على الإكراهوالإلزام، كما لو كانت قوة خالصة تُمارس العنف والقمع. لكن "الدولة"مجال لممارسة التنظيم السياسي للمجتمع على نحو يسمح بتدبير مدني وعقلاني لشؤونهالعامة، مما يجعلها قائمة في الوقت نفسه على "الشرعية القانونية" التيتُمَثِّل الإرادة العامة للشعب أو الأمة التي هي المصدر الحقيقي للسيادة والسلطةالمُخَوَّلة للدولة. لذا فإن "الدولة" تتجسد، فعليا، في"القانون" كواقع مؤسسي وإداري للتنظيم السياسي لـ"المجتمعالمدني".
وبهذا الخصوص، يرى "نيقولا مكياﭭـيل"(1469-1527 [Nicolas Machiavel]) أن ممارسة الصراع السياسي من طرف الأمير أو الحاكم تعتمدطريقتين، إحداهما تقوم على القوة في طبيعتها الحيوانية وثانيهما تستند إلى القانونكمجموعة من القواعد والقيم الضابطة لسلوكـ الإنسان. وطبيعة الاجتماع البشري (كمجالللنزاع والتنافس) تفرض استعمال الوسيلتين معا (القوة والقانون). فالحاكم مُضْطَرٌّلأن يكون في آن واحد أسدًا يُخيف الذئاب وثعلبا يتفادى مكامن الشِّرَاكـ، بل إنهفي الواقع ليس في حاجة إلى أن يمتلكـ كل هذه الصفات، وإنما يحتاج فقط إلى أن يُجيدالتظاهر بها حسب الظروف والمناسبات، وأن يكون مُستعدا دائما للتخلي عن القواعدالقانونية والأخلاقية والعمل بضدها عند الاقتضاء، مما يعني أن السياسة مجالٌ يفرضاستعمال كل الوسائل التي تُمَكِّن من امتلاكـ وممارسة السلطة.
ومن ناحية أخرى، يذهب ماكس ﭭـيبر إلى أن"الدولة" (كتجمع سياسي حديث) لا تتحدد بما تقوم به من مهام، لأن هذهالمهام كانت على الأقل في جزء منها موضوعا لفعل التجمعات السياسية في الماضي،وإنما تتحدد اجتماعيا بالوسيلة الخاصة المُمَيِّزة لها، وهي وسيلة تتمثل في احتكاراستعمال العنف المادي المشروع، أي أن "الدولة" تَجَمُّعٌ سياسيٌّ يتميزباحتكار الاستعمال الشرعي لكل أنواع العنف المادي في حدود مجال جغرافي معين. ولهذافإن قيام "الدولة" يمنع الأفراد وكذا كل التجمعات الأخرى من اللجوء إلىأي شكل من أشكال العنف المادي. وبالتالي فإن "الدولة" تُعَدُّ، في إطارالمجتمعات الحديثة، المصدر الوحيد لـ"الحق" في استعمال العنف، إذ لايَحِقُّ لأحد أن يُمارس العنف إلا بإذن من "الدولة" التي تحتكر، علىمستوى المجتمع، الحق في استعمال القوة. فـ"الدولة" إذن تتحدد في آن واحدكـ"قوة" و"حق".
ومن ثم، فإن "الدولة" صارت تعتبر "دولةحق" (Etat de droit). وفي هذا السياق، ترى "جاكلين رُوس" (JacquelineRuss) أن "دولة الحق" تؤديإلى ممارسة عقلانية للسلطة من حيث إنها تقوم على "القانون"، فهي سلطةتتميز بالاستناد إلى "القانون الوضعي" الذي ينبني على احترام"كرامة الإنسان" (حقوق الإنسان) وعلى "الفصل بين السلطات".وبهذا فإن "دولة الحق" تُمثِّل الشكل المتقدم والعقلاني من تنظيمالمجتمعات الحديثة، وهو الشكل الذي يجعل أفراد المجتمع ذوي كرامة واجبة الاحتراموحقوق مضمونة بالنسبة إلى جميع أعضاء المجتمع كمواطنين أحرار ومتساوين.               
* تركيب واستنتاج
تتجلى "الدولة" في ظل المجتمعات الحديثة كمجاللتأسيس الفعل السياسي وفق الشرعية القانونية، بحيث إنه في إطارها يصير ممكنا تنظيمالمجتمع المدني على نحو يسمح بتدبير السلطة في أفق بلورة أشكال عقلانية من التجمعالسياسي قائمة على التوازن والمساواة والعدل بشكل يضمن تجاوز العنف العشوائي وقيامآليات لتدبير أنواع الاختلاف بين مُكوِّنات المجتمع وتسهيل الاندماج والتضامنبينها لحفظ وحدة المجتمع واستمراره وازدهاره. لكن تَعقُّد أشكال التطور الاجتماعيوثِقَل التراكمات التاريخية، فضلا عن الصعوبات المتعلقة بتحولات المحيط الطبيعي،كلها تحديات تُواجِه هذا النموذج من التنظيم العقلاني للمجتمع السياسي الذي تُمثِّلُه"الدولة". ومن هنا، فإن ثمة عدة إشكالات تستمر قائمة حول مفهوم"الدولة"، خصوصا حول إمكانات الإدماج والاستيعاب لمختلف مظاهر التفاوتوالتمايز في عالم تتسارع فيه وتيرة التغيرات وتزداد وسائل التقريب والتقارب، وذلكـفي نفس الوقت الذي تشتدُّ أشكال وأسباب التباعد، ليس فقط بين أعضاء المجتمعالواحد، بل بين مختلف المجتمعات المُكوِّنة لدول وبلدان العالم.