مجزوءة I: الوضع البشري
1- الشخص
* تقديم المجزوءة الأولى
يَتَحَدَّدُ "العالمُ" بصفته مجموع الكائنات الموجودةوالمتحققة. ويُعَدُّ "الإنسان" من بين تلكـ الكائنات الموجودة في هذا "العالم"الذي يخضع في سيره لعدد من الشروط والأسباب والظروف. ووجود الإنسان في العالمبِمُحدِّداته هاته يجعله واقعا ضمن تلكـ الشروط المُحدِّدة. وهذا ما يقود إلى الحديثعن "الوضع البشري" (Human condition, la conditionhumaine). ذلكـ بأن حياة الإنسان في هذا العالمتتم بكيفيةٍ (أو حالة أو هيئة) مُعيَّنةٍ بفعل الشروط المُحدِّدة لوجوده فيه. ومنهنا فإن تناول "الوضع البشري" يعني تناول مجموع الشروط التي تُحدِّد الوجودالبشري في هذا العالم، وهي شروط تتخذ أشكالًا متعددة (بيولوجية-طبيعية، ﭐجتماعية،ﭐقتصادية، سياسية، ثقافية، تاريخية). فالْإنسان، بما هو جسدٌ أو عضوية حية، له عددمن الحاجات الطبيعية الأساسية التي لَا يمكن ﭐستمراره في الوجود إلَّا بتلبيتهاوإشباعها. ونجد أن كون الإنسان مُحدَّدًا بشروط ضرورية على هذا النحو هو الذييقوده إلى إقامة علَاقات مع نفسه ومع العالم من حوله، ويجعله من ثم يكتشف أهم الأبعادالتي تُكوِّن وجوده بصفته وجودا خاصا ومتميزا. فالْإنسان كائن يُدرِكـ أنه موجودفي عالم ويدركـ، في الآن نفسه، أنه موجود إلى جانب كائنات أخرى وأنه نتاجُ مَسَارٍطويل ومعقد يرتبط به، على هذا النحو أو ذاكـ، كونه ذاتا فاعلة ضمن شروط هذا العالم.وهكذا فإن "الوضع البشري" يتحدد باعتباره مجموع الشروط الذاتية والموضوعيةالتي تَحْكُم وجود الإنسان في هذا العالم بكل مستوياته. والنظر في "الوضع البشري"على هذا النحو يكشف عن كونه يتسم بالتعقد والصعوبة. وضمن هذا الوضع تتحدد إمكانات الفعلالإنساني بما هو فعل خاضع لمجموع الشروط المُحَدِّدَة لوجود الإنسان في ذاته بماهو وجودٌ متميزٌ (الإنسان كـ"شخص") وبما هو وجودٌ مشتركـ ومتداخل معغيره (الإنسان كـ"غير") وبما هو وجودٌ مُتَحَوِّل ومتقلب عبر الظروف الزمانيةوالمكانية (الإنسان كـ"تاريخ").
* المفهوم الأول: الشخص
* تقديـم
يطرح تناول "الوضع البشري" مسألة الوجود الإنسانيفي هذا العالم من جهة ما يُميزه ككائن عن غيره ضمن مجموع الشروط التي تُحدِّده.فـ"الإنسان" يوجد في هذا العالم ضمن "مجموع الكائنات" (منأشياء وحيوانات وآلَات). ولهذا فإن مفهوم "الشخص" يتعلق بتحديد أهم الصفاتوالسمات التي تُحدِّد "وجود الإنسان" وتجعله وجودًا متميزا في آن واحدعن الأشياء والحيوانات والآلَات، أي وجودا له "هوية" تسمح لنا بإعطاء الإنسان"قيمة" معينة بما هو ذات فاعلة وإرادة حرة تتحمل المسؤولية أخلَاقياوقانونيا عما تأتيه من أعمال من خلَال خضوعها لمجموع الشروط التي تحكم طبيعتها الخاصةوالتي يخضع لها وجود الإنسان في إطار وسط طبيعي وﭐجتماعي مُحَدَّدٍ ومُحَدِّد.
* الوضعية-المشكلة
يشمل هذا العالم، كما نشتركـ في إدراكه، مجموع الكائنات التيتنقسم إلى كائنات جامدة وسَلْبية (أشياء) وإلى كائنات حية، متحركة ومُدْرِكة(حيوانات) وإلى كائنات مصنوعة ذات قدرة "نسبية" على الحركة والإدراكـ(آلَات). ويُعَدُّ الإنسان، بما هو موجود متحقق، من بين "أشياء" هذا العالم.لكنه يتميز بأنه ليس مجرد "شيء"، فهو موجود (من حيث كونه جسدا أو عضويةحية) بصفته كائنا حَيًّا يملكـ قدرة "ذاتية" على الحركة والإحساس، أيأنه يندرج ضمن "النوع الحيواني". ومن هنا يُطرح إشكال الكيفية التييتحدد بها "وجود الإنسان" بالنسبة إلى "الأشياء" و"الحيوانات"و"الآلَات" التي تُشارِكه الوجود ضمن هذا العالم. فما أهم الخصائص التيتُحدِّد الإنسان في وجوده وتجعله "شخصا" متميزا في آن واحد عن "الشيء"و"الحيوان" و"الآلة"؟ ما هو الأساس الذي تقوم عليه "هويةالشخص"؟ هل يملكـ الإنسان مميزاتٍ أساسية وجوهرية تُخَوِّلُه أن يتحددكـ"شخص" له "هوية" تُمَكِّنُه من أن يتفرد بين كائنات العالم؟ما الذي يسمح لنا بتحديد "قيمة" لِلْإنسان تجعله "شخصا" يَفْضُلكل الكائنات ويتمتع بحقوق وواجبات؟ وإلى أي حدٍّ يتفرد الإنسان بـ"قيمة الشخص"كذات لها القدرة على الفعل الواعي والحر؟ هل يملكـ "الإنسان" من الوعي والقدرةما يجعله يتحدد كـ"شخص" حر ومسؤول؟
1- هوية الشخص (الهوية الشخصية)
* تحديد الإطار الإشكالي: كيفيمكن تحديد "الوجود الإنساني" في هذا العالم كوجود يتصف بشكل أساسيوجوهري بمجموعة من السمات التي تميزه عن "الأشياء" و"الحيوانات"و"الآلَات"؟ ما هو الأساس الذي تنبني عليه "هوية" الإنسانكـ"شخص"؟ هل تتحدد "الهوية" بما هي مجموعة من الخصائص الأساسيةوالجوهرية المُقَوِّمة لوجود الإنسان في ذاته؟ وهل "هوية الشخص" مُعطًىأولي وثابت مشتركـ بين كل أفراد النوع الإنساني أم أنها بناءٌ متفاوتٌ تتحكم فيهشروط الوجود الإنساني في تعددها وتغيرها؟
* مفاصل المعالجة:
عمومًا تتحدد "الهويةُ" (Identity,l’identité) بأنها "مجموع الصفات التيتُقَوِّمُ ذات الشيء بشكل أساسي"، أي مجموع الخصائص التي تجعل الشيء "هونفسه"، أي "مُمَاثِلًا لنفسه" (identique,soi-même) وقائما بذاته بما هو"ماهية" (une essence) أو "جوهر" (une substance). والنظر إلى الإنسان كـ"شخص" يجعله كائنا يتحدد فيهويته بجملة من المميزات الأساسية والجوهرية التي تَفْصِلُه في آن واحد عن "الأشياء"و"الحيوانات" و"الآلَات".
إن "الحس المشتركـ" يميل إلى تحديد "الإنسان"ككائن يتحقق وجوده في هذا العالم بما هو "جسم حي" (أي بصفته جسدا أوبدنا). فـ"وجود الإنسان" يتحدد كـ"شيء" (chose) متحقق في هذا العالم، لكنهيتجاوز مستوى "الشيئية" بما هو "جسد" له القدرة على "الحركة"و"الإحساس". وهذا ما قد يُوهِمُنا بأن "الإنسان" ليس سوى"حيوان" ككل الكائنات الحية، بل قد لَا يكون -بما هو عضوية حية تقومبوظائف- سوى "آلة طبيعية". غير أن "الإنسان" يتميز، على الرغممن كل ما يشتركـ فيه مع الحيوانات والآلَات، بكونه "ذاتا فاعلة" علىأساس نوعٍ من "الوعي المُميِّز" و"الإرادة الحرة"، أي أن"الإنسان" ليس مجرد "جسم حي" ("جسد" أو"بدن")، بل إنه أيضا وبالْأساس "نفسٌ واعية لها إرادة حرة".وهذه هي الثنائية المعروفة في كل الثقافات والمجتمعات منذ أقدم عصور التاريخ الإنساني.فهل تقوم "هوية" الإنسان (بما هو "شخص") على كونه"جسدا" أم بصفته "نفسا"؟ وهل كون الإنسان ذاتا فاعلة بوعيوحرية هو ما يجعله "نفسا" أم أن صفات الوعي والقصدية نتاج للجسد الإنسانيفي أرقى وظائفه كما تتجلى في الدماغ البشري الذي يميز "الإنسان" عن"الحيوان" و"الآلة"؟
نجد أن تصور الوجود الإنساني في الفلسفة القديمة، وخصوصااليونانية، يدور حول مفهوم "النفس" (Psukhê,l’âme). فسقراط من خِلَال قوله المشهور"اِعرف نفسكـ بنفسكـ" يؤكد أهمية "النفس"، ليس فقط كموضوعللمعرفة، بل أيضا بصفتها أهمَّ ما يُقَوِّمُ وجود الإنسان كذاتٍ فاعلة لها القدرةعلى المعرفة. فـ"الإنسان" يتحدد أساسا بما هو "نفس"، لِأن"النفس" حقيقة خالدة، في حين أن "الجسد" (soma) عَرَضٌ فَانٍ وزائل. وهذا هونفسه موقف أفلَاطون الذي أكد كذلكـ أن "النفس" لها صلةٌ وُثْقَىبـ"عالم المُثُل" الذي هو "عالم الحقيقة"، مما يجعل الوجود الحقيقيللْإنسان مرتبطا بنفسه الخالدة ونزوعها نحو العالم العلوي الذي يسمو على العالم السفلي(الحسي-المادي، المتغير، الناقص والمتناقض). أما أرسطو، فيذهب إلى أن جوهر الإنسانيتمثل في كونه "حيوانا ناطقا/عاقلًا"، أي بما هو "بدن" (جسمحي) و"نفس" (مبدأ مُدْرِكـ وعاقل)، حيث إن "النفس" هي "كمالالجسم الحي"، وهي أساس الجانب العاقل فيه.
ولكن يمكننا أن نُلَاحظ أن تصور "الإنسان" في الفلسفةالقديمة كان قائما على الثنائية المعروفة "بدن/نفس"، وأنه كان -خصوصا فيالفلسفة اليونانية- يُفاضِل بين "البدن" و"النفس" لصالح هذه الأخيرة،وذلكـ على الرغم من كون موقف أرسطو يُعِيد الاعتبار للجانب الحسي في الإنسان (البدن)،إذ لَا تُمثِّل "النفس" لديه سوى "كمال" أو "غاية" الجسمالعضوي الحي. وعموما يمكن القول بأن الفكر القديم لم يَبْلُغْ مفهوم "الشخص"(بما هو مفهوم كلي ينطبق على كل إنسان)، حيث إن "الإنسان" وفق التصور اليونانيلم يكن في الواقع سوى "المواطن اليوناني الحر" في مقابل "الأجنبي"(البربري) الذي يمكن ﭐتخاذه عبدًا ؛ والحال أن العبد كان مجرد "شيء" أو"آلة" سخرتها الطبيعة لخدمة السادة والعمل على تلبية رغباتهم وحاجاتهم.ومن هنا، فإن مفهوم "الشخص" لم يتبلور، على الحقيقة، إلا في الفلسفة الرواقيةالرومانية (الإنسان كذات تلعب دورا محددا، ولها حقوق وعليها وواجبات) وبالْأخص في الفلسفةالوسيطية، سواء أكانت مسيحيةً (الإنسان كشخص خُلِق على صورة اللـه) أم إسلَامية (الإنسانمخلوقٌ إلَاهي مُفَضَّل على أكثر العالمين ومُكَلَّفٌ بتحمل الأمانة في العالم).
وفي إطار الفلسفة الحديثة، نجد أن ديكارت (1596-1650)يرى، من خلَال تجربة "الكوجيطو" ("الأنا المفكر") أن حقيقة الإنسانتتمثل في كونه "شيئا مفكرًا"، أي "ذاتا مفكرة"، حيث إن "الفكر"هو الذي يُحدِّد -بشكل جوهري وأساسي- ذات الإنسان. و"الفكر"، كخاصيةجوهرية للذات، هو مجموعة من الصفات التي تشمل كلًّا من "الشكـ" و"الفهم"و"الإثبات" و"النفي" و"الإرادة" و"التخيل"و"الإحساس" أيضا. إنها الخصائص التي تُلَازِم طبيعة "الذات"وتُحدِّد ماهيتها و، بالتالي، تُميزها عن غيرها. وبفضل خاصية "الفكر"تُعَدُّ "الذات" واعيةً، أي أنها تُدرِكـ نفسها ككيان متميز وكمصدرللفعل تجاه العالم (مجال "الطبيعة" بما هو مجال يضم "الأشياء"و"الحيوانات"). وهكذا، فإن ديكارت يؤكد أهمية "الأنا" (كمعطىأولي وكلي) في تحديد "هوية الشخص"، وذلكـ بما هي قدرة على التفكير بشكلحر ومستقل. ولهذا فإن تصور ديكارت يمثل لحظة أساسية في الفلسفة الحديثة في تأكيدهالمفهوم "الذات" كمنطلق لبناء معرفة حقيقية حول العالم، معرفة تُمَثِّل الوسيلةالتي من شأنها أن تُمَكِّن الإنسان من السيطرة على عالم الطبيعة وتَمَلُّكهباعتباره مجرد "موضوع" لتدخل "الذات".
لكن التصور الديكارتي لـ"الشخص" يبقى، منخلَال تأكيده لِأهمية "الذات المفكرة"، منغلقا ضمن البعد الميتافيزيقيللوجود الإنساني، حيث إنه لَا يستحضر الأبعاد الأخرى من هذا الوجود، خصوصا تلكـ التيتتعلق بالشروط الاجتماعية والتاريخية المُحدِّدة له. وفضلًا عن هذا، فإن هناكـمشكلة الثنائية ("بدن/نفس")، إذ أن ﭐعتبار الوجود الإنساني مزدوجًا (النفسكجوهر مفكر، والبدن كجوهر ممتد) يطرح (إلى جانب مشكلة مدى إمكان معرفة "النفس"بواسطة العلم تماما مثل "البدن/الجسم" كموضوع للفيزياء أو الطب والتشريح)مسألة العلَاقة الممكنة بينهما. فأيهما يُحَدِّدُ الآخر؟ وكيف يمكن تحقيق التوافقبينهما كجوهرين متعارضين؟ وغيرها من الإشكالَات التي سيشتغل طويلًا بها العلماء والفلَاسفةبعد ديكارت.
وعيًا بما يطرحه التصور الديكارتي من مشكلَات، أتى تصورجون لوكـ (1632-1704) ضمن النزعة التَّجْرِبِيَّة (التَّجْرِبَانِيَّة) التي تؤكدأهمية التجربة الحسية في المعرفة. فهو يرى أن الإنسان لَا يمتلكـ بالفطرة أي معرفةأو أفكار قَبْلِيَّة، لَا عن نفسه ولَا عن العالم من حوله، وإنما يُعتبر ذهنه مثل الصفحةالبيضاء التي تتلقى كل نقوشها وسطورها من التجربة الحسية. ومن هنا، فإن "الهويةالشخصية" تقوم على أساس كون الإنسان مفكرًا، وهو الأمر الذي يجعله قادرا على"فعل التفكير" الذي يجعله بدوره يدركـ أنه ذات فاعلة على ﭐمتداد الزمانوالمكان. ذلكـ بأن كون التفكير يتحدد كـ"فِعْلٍ" يجعله يؤدي إلى وجودإحساس بالذات التي تقوم بذلكـ الفعل، وهو إحساس لَا يكاد ينفصل عن فعل التفكير،حيث إنه لَا يُمْكِنُ للكائن المفكر أن يُدركـ دون أن يعرف أنه هو نفسه الذييدركـ. وهذه المعرفة مُرَافِقَةٌ دومًا لِإحساساتنا وإدراكاتنا. ولهذا، فإن "الهويةالشخصية" ناتجةٌ عن أفعال التفكير والإحساس في تكرارها وتَعَوُّدها، مما يجعلكل واحد منا يحس بنفسه كـ"أنا" ويدركـ هويته الشخصية التي تمتد بقدر مايمتد وعيه بأفعاله الماضية ليستحضرها ويَتَذَكَّرها.
إن أهمية تصور "لوكـ" تكمن في كونه يربط"الهوية الشخصية" بالفكر والإدراكـ كفعل تجربي وحسي. فإدراكـ الذاتلنفسها كفكر أو وعي تابعٌ لفعل التفكير نفسه كتجربة حسية، وليس مجرد مُعطى فطرييسبق كل تجربة. كما أن أهمية هذا التصور تتمثل في تمهيده لتصور "ديفيد هيوم"(1711-1776) الذي قام بإعادة النظر في مفهوم "الهوية الشخصية" ﭐنطلَاقامن المنهج التجريبي. إذ أنه يرى أن "الأنا" في دلالتها على الوعيبالوحدة والاستمرار ليست موضوعا للتجربة، حيث إن ما يُجَرِّبه كل مِنَّا إنما هودائمًا فِعْلٌ جُزْئِيٌّ مُعَيَّنٌ مُتغير باستمرار، الأمر الذي يجعل من الصعب الإمساكـتجربيا بـ"الأنا" في وحدتها وبساطتها. وبالتالي فإن "الهوية الشخصية"ليست سوى وَهْمٍ أو خيالٍ قائمٍ على آليات المشابهة والمقارنة والربط التيتُمَكِّن الإنسان من إدراكـ العلاقات بين الأشياء والظواهر على نحوٍ يُسهمُ فيبناء نوع من الذاكرة، التي ليست في واقع الأمر سوى ﭐنعكاس لتأثير اللغة المشتركـ،مما يُفيد أن "الهوية الشخصية" إشكال لغوي محضٌ.
وعلى أساس ذلكـ النقد الهيومي، يرى إيمانويل كنط(1724-1804) أن "الكوجيطو" في دلالته على "الأنا المفكر" لايمكن أن يكون حقيقةً مُدْرَكَةً بعيدا عن كل تَمَثُّلٍ يَنْصَبُّ على موضوعٍخارجِيٍّ. فالذاتُ المفكرةُ لا يُمكِنُها أن تُدرِكـ نفسها على نحو مباشر بواسطةحدس فكري/ذهني، مما يجعل فعل المعرفة يستند حَتْمًا إلى حضور الموضوع الخارجي. لكنكنط يعود، رغم ذلكـ، ليؤكد أن هذه "الذات" تَتَعَالى على كل تجربة، بحيثإنها تتحدد في شكل مجموعة من الصُّوَر والأُطر القَبْلِيَّة التي تُمَكِّن من بناءالحُدُوس التَّجْرِبِيَّة (المتعلقة بالأشياء) كمواضيع للمعرفة. ومن ثم ينتهي "كنط"إلى القول بأن الإنسان يتميز عن الكائنات الطبيعية كـ"كائن عاقل" يتجلىكعقل عملي أخلاقي هو أساس "الشخص" كغاية في ذاته، غاية قُصوى تتجاوز كل الغاياتوتُعطيه نوعا من الكرامة التي يجب ﭐحترامها على نحوٍ كُلِّيٍ، أي أن "هوية الشخص"تتمثل في كونه صاحب "إرادةٍ خَيِّرةٍ" تَقُوده إلى الإحساس بالواجب بشكلعام وبعيدا عن كل غرض أو منفعة.
ويأتي "هيغل" (1770-1831) ليتجاوز ذلكـ التصورالشكلي والمجرد عند "كنط". فهو يرى أن وجود الإنسان -من حيث هو وجودلذاته (أي وعي) يتميز عن وجود الأشياء- إنما هو وجودٌ مُتَجَسِّدٌ على نحو عينيوواقعي. لذا فإن الوعي -بما هو وعي الذات بنفسها- ناتجٌ عن صراع ﭐجتماعي وتاريخييتم من أجل كسب نوع من "الاعتراف" الذي يَحْفَظُ للذات مقام الوعيبنفسها. ومن هنا، فإن الوعي صيرورةٌ تاريخية وﭐجتماعية تتجسد في جدل "السيد"و"العبد"، أي أن ما يُشَكِّلُ "هوية" الإنسان واقعٌ خاضعٌللتغير والتناقض الجدليين من خلال الشروط الاجتماعية والتاريخية. وبالتالي فإن"الشخص" لا يتجلى كوعي أخلاقي إلَّا من حيث كونه يمثل "روح الشعب"كمجموعة من الأعراف والقوانين التي يعرف الفرد بفضلها الخير والواجب. ويُعَدُّتصور "هيغل" هذا أساسيا في تأكيده للطابع المتجسد للوعي وللطابع الجدلي المُمَيِّزللصراع الاجتماعي والتاريخي كصيرورةٍ من أجل الاعتراف. ونجد أن كل هذه المُحَدِّداتستفرض نفسها بأشكالٍ مختلفةٍ على الفلاسفة والمفكرين اللَّاحقين لهيغل (خصوصاشوﭙنهاور، نيتشه، ماركس، فرويد).
وفي أعقاب ذلكـ كله يأتي "جول لشوليي"(1832-1918)، في نهاية القرن 19، ليؤكد أن "هوية الشخص" تتأسس على"وحدة الطبع" و"ترابط الذكريات". ومن أجل بلورة هذا التصوريعمل، أولًا، على إزاحة التصور الشائع الذي ينظر إلى "الهوية الشخصية"كوحدةٍ وثباتٍ يُقَوِّمان على نحوٍ جوهري (أي أصلي ودائم) "الشخص" بماهو "ذات" أو "أنا". إذ توجد جملةٌ من الوقائع تُفَنِّد فينظره مثل ذلكـ التصور. فالإنسان في حالة النوم يفتقد "الأنا" (كحضورذهني) أو له فقط "أنا" مُتخيَّل (كإدراكـ حَالِم) سرعان ما يتلاشى حين اليقظة؛ وكذلكـ فإن الإنسان في حالة المرض له أنا أول وأنا آخر متناوبان داخله، وأحدهمافقط يُدرِكـ الآخر. ولهذا، فإنه من الصعب جِدًّا في نظر "لشوليي" أننُرْجِعَ حالاتِنَا الداخلية إلى "الأنا" أو "الذات" كوحدةٍمستقلة، مُتَّسِقَة ودائمة. وبالتالي، فلا شيء آخر يُثبت في الواقع الفعلي "الهويةالشخصية" غير "دوام الطبع" و"ترابط الذكريات". ذلكـ بأنكل إنسان يأتي أفعاله بطريقة مُحدَّدة وﭐعتيادية تجعل تصرفه أو سلوكه يتصف بعدد منالسمات، ثم إن إدراكاتنا أو حالاتنا النفسية يرتبط بعضها ببعض على نحو يجعل وعينا التذكرييربط بين الماضي والحاضر في مسار حياتنا. وهكذا فإن "الهوية الشخصية" فينظر "لشوليي" ليست مُعطاةً على نحو أولي وأصلي، كما كان يُعتقد سابقا،وإنما هي مجرد ﭐنعكاس -مباشر ومتواصل بهذا القدر أو ذاكـ- لِإدراكاتنا الماضية فيإدراكاتنا الحاضرة. ومن ثم، فإن تحديد "الهوية الشخصية" يقتضي التخلي،في آن واحد، عن مفهوم "الأنا" باعتباره أحد أوهام علم النفس، وعن "الجوهر"كأحد أوهام الميتافيزيقا، مما يجعلها تتحدد بشكل فعلي كمجموعة من الظواهر المتعلقةبالطبع السلوكي وما يرتبط به من وعي تذكري.
ونُلَاحظ أن "لشوليي" وظف في بناء تصوره ذاكـجملةً من المفاهيم التي تنتمي إلى مجال علم النفس (الطبع، الذاكرة، الإدراكـ، الوعي/الشعور)،مما قد يشير إلى أنه يعتمد المنظور النفسي في تحديده لـ"هوية الشخص".لكنه في الواقع يعتبر أن "الأنا" ليس سوى وهم من أوهام علم النفس، تمامامثل "الجوهر" في الفلسفة. وبناء على هذا، يستنتج أن "الهوية الشخصية"لا تتحدد لا بـ"العقل" ولا بـ"الحرية" ولا بـ"الروح"،فلا شيء ثابت فيها يمكن أن يوصف كـ"جوهر"، وإنما يتعلق الأمر بـ"الطبع"و"الذاكرة" كمجموعة من السمات التي تميز الإدراكات والحالات النفسية كماتعبر عن نفسها في وقائع السلوكـ. غير أن "لشوليي" لا يعتمد على"علم النفس" بشكل أساسي لإيمانه بأن الفلسفة يمكنها أن تقوم كمجال معرفيمستقل. ولذا لا يحدد الكيفية التي يكتسب بها الشخص طبعه السلوكي ووعيه التذكري:فهل يتم الأمر على نحو تلقائي أم أنه يتم ضمن الشروط الاجتماعية والتاريخية والثقافيةالتي ترتبط بالوسط حيث يعيش المرء والتي يدرسها "علم النفس" مثلا؟ إن "لشوليي"ينتهي، بعد كل ذلكـ، إلى أن حقيقة الإنسان الداخلية مزدوجة: فهناكـ مجال الوعيكإدراكات حسية، ومجال الفكر كنُور ينشر هذا الوعي على الإحساسات. ومن هنا فلا بأسفي نظره من أن يكون الإنسان موضوعا لعلمين متميزين، "علم النفس" الذييتناول مجال الوعي، و"الميتافيزيقا" التي تتناول الفكر في ذاته، من جهةمصدره كنور. ومن خلال هذا نُلاحِظ محدودية تصور "لشوليي" الذي يبدو أنهلم يَستثْمِرْ بقدر كَافٍ أهم ما أعطاه الفلاسفة الذين سبقوه أو عاصروه (هيغل،شوﭙنهاور، نيتشه، كونت، ماركس، وفرويد)، وهي العطاآت التي تَصُبُّ، من ناحية، فيﭐتجاه تقويض مفهوم "الذات" كأنًا مفكر وواعٍ و، من ناحية أخرى، في تأكيدأهمية الشروط الطبيعية والاجتماعية المحدِّدة لقيام الفاعلية الواعية لدى الإنسان.وعلى هذا الأساس، فإن "الهوية الشخصية" تصير موضوعا للتغيُّر والتعددوالتناقض.
كان لَا بُد، إذن، من ﭐنتظار مجيء "سيغموند فرويد"(1856-1939) الذي ﭐستفاد من تلكـ العطاآت على نَحْوٍ مَكَّنَهُ من بناء تصور مختلفوغني. فهو يرى أن ثمة عددًا من الحالات والأفعال النفسية (الأحلام، فلتات اللسان، النكت،إلخ.) التي لا يُمكن فهمُها وتفسيرُها فقط بِرَدِّها إلى أسبابٍ يشهد لها "الوعي"في الحياة الشعورية العادية للشخص، بل إنها لَا تأخذ معناها الكامل وتكتسب نوعا منالاتِّسَاق إلَّا إذا ﭐفترضنا وجود حياة نفسية لَاشُعورية. ذلكـ بأن الطبيعةزَوَّدت الإنسان بطاقة حَيَوِيَّة (اللبيدو) هي مجموع النزوات والرغبات والشهوات التيتدفع أو تُحَرِّكـ الإنسان منذ طفولته الأولى والتي تطلب الإشباع، مما يجعلها لَاتخضع إلَّا إلى مبدإ طلب اللذة وﭐجتناب الألم. لكن ظروف الحياة الاجتماعية والثقافية،التي تحكم حياة الإنسان، تُواجه النزوع الطبيعي نحو اللذة بـ"مبدإ الواقع"الذي يَكُفُّ "غريزة الحياة" ويمنع الإنسان من الاستسلَام لـ"غريزةالموت" في سعيه نحو الاستجابة العمياء لدوافعه اللِّبِيدِيَّة، الأمر الذييجعله يتعلم -منذ فترة الرضاع- أن هناكـ نزوات يجب تأجيلها وإرجاؤها، وبالتاليقمعُها وإخفاؤُها. وهكذا فإن شخصية الإنسان تتحدد بنيتها النفسية منذ السنوات الأولىمن الطفولة، حيث إن تَشَكُّل هيئات الجهاز النفسي (الهو، الأنا، الأنا الأعلى) يتمفي هذه الفترة، باعتبار أن الطاقة الحيوية المُكَوِّنة لهيئة "الهو"تصطدم، في نزوعها نحو الإشباع، بـ"الواقع الخارجي"، مما يؤدي إلى نشوءهيئة "الأنا"، كجزء وسيط بين "الهو" و"الواقع الخارجي"،يتحكم في الحركات الإرادية ويؤدي وظيفة حفظ التوازن بين الضغط القادم من "الهو"والضغط الآتي من "الأنا الأعلى" (مجموع القيم الأخلَاقية في مجتمعوثقافة معينين، والمتجسدة في الممنوعات والمحرمات القائمة التي يستدمجها الطفلأساسا من خلَال علَاقته بوالديه). وفي خضم هذا الصراع، تبدو شخصية المرء واقعةًتحت تأثير الدوافع اللَّاشعورية الناتجة عن عملية الكبت التي تُوَجِّهُ وتُقَنِّنُالطاقة الحيوية للْإنسان حسب الشروط الاجتماعية والثقافية التي حَدَّدَت طفولته، والتيتعبر عن نفسها رمزيا عن طريق الإعلَاء في الحالة العادية أو ماديا عن طريق الأمراضالنفسية والعصبية عندما يفقد الأنا زِمام الأمور في عمله على حفظ التوازن بين المطالبالمتعارضة لكل من "الواقع الخارجي" و"الهو" و"الأنا الأعلى".
يقوم إذن تصور "فرويد" على أن "هوية الشخص"تتحدد كبنيةٍ نفسيَّةٍ ناتجة عن الصراع بين الهيئات الثلَاث في علَاقتها بالواقع الخارجي،الأمر الذي يجعل "الأنا" -وهو يسعى للقيام بمهمة الوساطة بين أسياده الثلَاثةتلبيةً لمطالبهم ومن أجل ضمان وحفظ التوازن بينهم- يُواجِه صعوبات كبرى ويعيش فيقلق دائم. ومن هنا، فإن البنية النفسية للشخص في المنظور الفرويدي تتحكم فيهاأساسا الدوافع اللَّاشُعُورية على نحوٍ يجعل "الأنا لَا يكون أبدًا سَيِّدًافي منزله". وهكذا فإن أهمية موقف فرويد تتمثل في مُراجعة التصور التقليدي الذيينظر إلى الذات كـ"أنا" واعٍ له القدرة على الفعل والاختيار. ففرويديؤكد أن الجانب الواعي في "الشخصية" ضعيف جدا إلى الحد الذي يجعل "الأنا"مجرد عبدٍ خادمٍ تُطَوِّح به في كل ﭐتجاه المطالب المُلِحَّة والمتعارضة لِأسياده الثلَاثةالأشدء والمستبدين. كما أن تصور فرويد يُبَيِّن قيمة العوامل الخارجية في تحديد"هوية الشخص"، وبالخصوص أهمية المسار التاريخي للشخص في مجتمعه ومنخلَال ثقافته، الأمر الذي يجعل البنية النفسية للشخص ذات طابع تَكَوُّني وحركي،وذلكـ بفعل التعارض والصراع الموجودين بين "الأنا" من جهة، وبين "الواقع"و"الهو" و"الأنا الأعلى" من جهة أخرى. لكن التصور الفرويدي،في الوقت نفسه الذي يُظهِر محدودية المواقف التي تنظر إلى الذات كـ"أنا"واعٍ وحر، فإنه يبدو -من خلَال إبرازه لدور اللَّاشعور- مَيَّالًا إلى النزعة الحتمية(الحَتْمَانية) التي لَا تتركـ لِلْإنسان، بما هو فرد، أي خيار أمام ضرورة الشروط الطبيعيةوالاجتماعية والثقافية والتاريخية التي تُحَدِّد و، من ثم، تَحُدُّ وجوده وفاعليتهفي هذا العالم. وهذا ما يجعل القول بوجود حَتميةٍ لاشُعُوريةٍ مُتحكمةٍ في فاعلية الذاتيطرح مشكلةَ الإرادة والحرية والمسئولية، وبالتالي قيمة "الشخص" الإنسانيإزاء الكائنات الطبيعية والحيوانية.
* تركيب وﭐستنتاج
يتعلق إشكال "هوية الشخص" (أو "الهوية الشخصية")بمجموع الخصائص التي تُحدِّد وجود الإنسان من حيث هو وجود متميز عن وجود الكائنات الأخرى.وتقوم المعالجة الفلسفية لهذا الإشكال بإبراز أهمية "النفس" سواء فيتميزها عن "البدن" (كما هو الحال في الفلسفة اليونانية، خصوصا مع سقراطوأفلَاطون، وإلى حدٍّ ما مع أرسطو كذلكـ) أو في تحديدها للجانب العاقل أو الواعيفي الإنسان (كما عند ديكارت في تأكيده لـ"النفس" كجوهر مفكر). ونُلاحظأن كل هذه التصورات تميل، في الغالب، إلى تحديدٍ داخلي ومُتَعَالٍ لـ"الهوية الشخصية".غير أن الفلسفة المعاصرة، منذ القرن 19، ما فَتِئَت تعمل على تجاوز الجوهرانية والذاتيانية(كنزعتين تَمِيلَان إلى تحديد الوجود الإنساني كهوية تقوم على الوحدة والثبات والكلية)،ومن ثم تأسيس منظورات تعتمد الواقعية والموضوعية والتفاعلَات العَلَاقِية على نحوٍيُمَكِّن من تحديد "الهوية" ضمن أنماط التغير والتعدد والاختلَاف. وفيهذا السياق يتميز فرويد بالقول بأن "هوية الشخص" تتحدد كبنية نفسية فيعلَاقتها بالواقع الخارجي الذي يدخل في صراع مع مطالب "الهو"، فيؤدي إلىتَكَوُّن "الأنا" كوسيط بينهما وإلى ﭐستدخال المعايير والقيم السائدة فيالمجتمع، فيتكون "الأنا الأعلى". وهكذا، فإنه إذا كانت المعالجةالفلسفية لـ"هوية الشخص" تبقى، عموما، محصورةً في إطار المنظور الذاتي،مما يجعلها تستبعد المُحدِّدات الخارجية أو تُقَلِّل من أهميتها، فإن العلوم الإنسانية(علم النفس، علم الاجتماع، علم التاريخ، علم اللغة، إلخ.) تعمل على تحديد مجموع الشروطالموضوعية التي تسمح بوجود الإنسان في هذا العالم وتتحكم، من ثم، في مسيرته وتطورهبالشكل الذي يُمَكِّنُه من أن يكون ذاتا فاعلة وواعية. ومن هنا، فإن "هوية الشخص"تتحدد، في منظور تلكـ العلوم، على نحو بَعْدِيٍّ من خلَال شروط الواقع المعيش فيخضوعه للتعدد والتغير، وهي الشروط التي تسمح –إلى هذا الحد أو ذاكـ- بإمكانتَحَقُّق وتَجَلِّي "الشخص" كذاتٍ متميزة وجوديًّا ومعرفيًّا وسياسياوأخلَاقيا. فـ"الشخص" ليس مجرد كيان فردي أو وحدة قائمة بنفسها، بل إنهحتى حينما يتجلى بهذه الصورة يبقى مرتبطا بمجتمعه وثقافته وتاريخه، أي أنه موضوعللتغير والتعدد، بحيث لَا إمكان لقيام وحدته وﭐستمراره إلَّا على هذا الأساس الذييجعل "هوية الشخص" بناء مفتوحا ومتدرجا، وبالتالي إشكاليا.
2-قيمة الشخص
* تحديد الإطار الإشكالي: كيفتتحدد "قيمة الشخص"؟ هل من حيث كونه وسيلةً لغيره أم بصفته غايةً فيذاته؟ وهل تتحدد هذه القيمة كمعطى أولي وكُلِّيٍّ أم بما هي بناء تاريخي وﭐجتماعيخاضع لشروط الوجود الإنساني في تغيُّرها وتعدُّدها؟ وهل هي قيمة مطلقة تتجاوز الواقعالتاريخي والاجتماعي والثقافي للبشر أم أنها تتحدد بالنسبة إلى هذا الواقع، فتبقىمرهونةً به حتى بما هي مطلبٌ كُلِّيٌّ وشمولي؟
* مفاصل المعالجة
إن تناول الإنسان في تميُّزه عن الكائنات الأخرى (بما هوشخص) يقود إلى طرح مشكلة المعايير والغايات التي من خِلالها يُمكن تحديد الخصائص التيتجعل "الشخص" متميزًا في هويته عن كل من الأشياء والحيوانات والآلات. والحديثعن معايير وغايات الوجود الإنساني يُؤَدِّي إلى التساؤُل عن "القيمة" التييتفرد بها الكائن البشري بما هو "شخص". فعلى أي أساس تُعطى لِلإنسانمكانةٌ متميزةٌ بين الكائنات؟ وكيف تتحدد "قيمة" الإنسانكـ"شخص"؟
يرى "كنط" أن الإنسان يتحدد -بما هو كائنعاقل- كغاية في ذاته، وليس فقط كمجرد وسيلة يمكن ﭐستعمالها لبلوغ غايةٍ ما بناءًعلى ما تُقرره أي إرادة أخرى. ومن هنا فالإنسان يتميز عن "الشيء" بصفتهشخصًا له كرامة يجب ﭐحترامها على نحوٍ كُلِّيٍّ. وهذا ما يجعل الإنسان في أفعاله،سواء كانت تتعلق به أو بغيره من الكائنات العاقلة، ينظر دائما إلى نفسه بصفتهغاية، بل بكونه غاية قُصْوى تتحدد بالنسبة إليها كل الغايات الأخرى باعتبارها مجردوسائل. وبالتالي فإن الإنسان في ذاته يتحدد كعقل عملي وأخلاقي يتجلى كـ"إرادةخيِّرة" تتصرف بمقتضى الواجب الذي يُلْزِمُ كل إنسان بضرورة التصرف باحترام الإنسانيةفي شخصه كما في شخص غيره دائما بصفته غاية وليس أبدًا كمجرد وسيلة. إنه كقيمة قصوىيُعَدُّ ذا طابع مطلق وكلي يجعله يتجاوز مَشْرُوطِيَّة ونسبية الأشياء والكائناتغير العاقلة.
لكن "هيغل" يذهب إلى أن كون الفرد شخصا لهقيمة أخلاقية كليةٌ يرتبط بالوجود التاريخي والاجتماعي. إذ بدون عمل التربية لايستطيع الفرد أن يعرف ما يصلح له ولغيره كقيمة أخلاقية، الأمر الذي يجعل "الإرادةالخَيِّرة" كما يتصورها كنط تجريدًا يتجاوز الحياة الفعلية، حيث إن «شيئا فارغامثل الخير من أجل حب الخير لا مكانله في الواقع الحي». ومن هنا فالأفراد لا تكون لهم قيمة الشخص الإنسانيككائن أخلاقي وقانوني إلَّا في المدى الذي يمتثلون لروح شعوبهم فيكتسبون، من ثم،مكانة خاصة في حياة الجماعة من خلال ما تُحَدِّدُه القوانين والأعراف التيتُعَيِّنُ بوضوح مضمون الخير والشر أو العدل والظُّلْم. وهكذا، فإن الوجود الأخلاقيوالقانوني للشخص لا يتعين موضوعيا عند "هيغل" إلَّا في إطار صيرورةٍتاريخية وﭐجتماعية هي التي تُعطي للفرد قيمته كـ"شخص أخلاقيوقانوني".
غير أن "إيمانويل مونيي" (1905-1950) يأتيليؤكد من جديد أن "الشخص" يتحدد أساسًا بأنه واقع ذاتي يتجاوز كل تحديدٍموضوعي، حيث إنه واقعٌ يُبْنَى ويُعْرَف في آن واحد من الداخل، رغم كونه ليس مجردفرد قائم بنفسه. وهكذا فشخصانية "مونيي" تذهب في ﭐتجاهِ تأكيد أن الشخصكِيَانٌ رُوحِيٌّ لا يقبل التجزيء ولا يمكن الإمساكـ به من الخارج كشيء أو موضوع،وذلكـ على الرغم من كل ما تدَّعيه العلوم الطبيعية والإنسانية من إمكان بلوغ حقيقة"الشخص" بواسطة المعرفة الموضوعية. وبالتالي فإن "قيمة الشخص"تتجاوز التحديد الموضوعي كما تُجَسِّدُه الشروط التاريخية والاجتماعية والثقافية،بحيث تبدو قيمةً قُصْوَى مُتعاليةً وغيرَ مشروطةٍ، أي مطلقة وكلية، تماما كما نجدعند "كنط".
* تركيب وﭐستنتاج
يبدو أنه على أساس تحديد "هوية الشخص" يمكنتحديد قيمته إما كمعطى أولي، كلي ومطلق (الذات المفكرة والواعية هي أساس "الشخص"كذات أخلاقية تشعر بالواجب في ﭐحترام كرامة الكائن العاقل كغاية في ذاته، وأيضاكقيمة قصوى تتجاوز قيمة الشيء أو الموضوع) وإما كبناء تاريخي وﭐجتماعي يستند إلىمجموع شروط الوجود التاريخي في تغيُّرها وتعدُّدها. وإذا كان النظر إلى "الشخص"بصفته قيمة مطلقة وكلية يبدو مَثَلًا أعلى، فإن تجسيد هذا المثل الأعلى في الواقعيخضع لِإمكانات الفعل الاجتماعي والتاريخي للإنسان في تعقُّدها وضرورتها، الأمر الذييجعل "قيمة الشخص" لا تتحدد في الحقيقة كمجرد فكرة مثالية شكلت ولا تزالأحد المطالب الإنسانية الكبرى، وإنما كبناء أخلاقي وقانوني من خلال صراع طويلوشديد بين القُوى الاجتماعية عبر صيرورة تاريخية آلت في العصر الحديث إلى التجسُّدفي نظام مُؤَسَّسِي لتدبير مختلف أشكال التعدُّد والاختلاف المُلازِمة للوجود الاجتماعيللبشر. وهكذا نجد أن "جون راولز" (1921-2002) يذهب إلى أن بروز "الشخص"(كمواطن حرّ يتساوى مع غيره في الحقوق والواجبات) يرتبط بقيام نظام للتعاون المُنْصِفبين كل أعضاء المجتمع في إطار نظرية للعدل كإنصاف، حيث يمكن للفرد أن يُشاركـ بشكلكامل في مجتمعه كعضوٍ فاعلٍ وأن يمتلكـ القدرات والكفاءات التي تُخَوِّلُه أن يكونشخصا أخلاقيا وقانونيا في إطار ديموقراطية دستورية.
3- الشخص بين الضرورة والحرية
* تحديد الإطار الإشكالي: هل"الشخص" ذات واعية وحرة بالشكل الذي يجعله يتحمل المسؤولية أخلاقياوقانونيا عن أفعاله؟ وهل يملكـ من الوعي والإرادة ما يجعله يتحدد بصفته حرًّاومسؤولًا؟ أم أن كونه يتحدد في هويته كما في قيمته بشروط وجوده الاجتماعي والتاريخيالتي تُخْضِعه لنوع من الحتمية والضرورة وتتحكم في فاعليته يجعل حريته موضوع نزاعونضال دائمين و، بالتالي، رهينة بتدبير واقعي لمختلف إكراهات وضعه البشري في هذا العالم؟
* مفاصل المعالجة
يذهب "باروخ إسـﭙـينوزا" (1632-1677) إلى أنكون اللـه يُحيطُ بالعالم، من خلال إرادته وقدرته المطلقتين، يجعل الإنسان -بما هوأحد الكائنات الطبيعية- واقعًا ضمن نظام الطبيعة في خضوعه للضرورة. فالإنسان، هوأيضا، له طبيعته الخاصة، سواء بما هو بدنٌ أو بما هو نفسٌ، حيث لا مَفَرَّ له من الامتثاللما تُمْلِيه عليه طبيعته على نحو ضروري. وإذا كان الناس لا يفتأون يَدَّعُون أنهمأحرار في أفعالهم لِأنهم يتمتعون بإرادة حرة تُمَكِّنُهم من الاختيار الحر، فليسهذا في نظر "إسـﭙينوزا" سوى نوع من الحكم المسبق القائم على الوهم الذييدل في الحقيقة على جهلهم بالأسباب الخفية التي يخضعون لها بشكل ضروري وحتمي، ذلكـالجهل الذي يُقَوِّيه في نفوسهم وعيُهم بأفعالهم ورغباتهم من جهة صُدورها عنذواتهم. ومن هنا، فليست هناكـ حرية بمعنى الانفكاكـ عن كل القيود والأسباب، وإنماهناكـ "ضرورة حرة" تجعل الناس يُوجَدون ويتصرفون بصورة مُحَدَّدة، أيضرورية. غير أن "إسـﭙينوزا" يؤكد، في الوقت نفسه، أن «الإنسان،الذي يَقُوده العقل، يكون حرا في المدينة حيث يعيش وفق الأمر المشتركـ، بخِلاف الذييكون منعزلًا فلا يُطيع سوى نفسه.» (الأخلاق، القضية 73) ؛إذ أن الإنسان الذي يقوده العقل لا يكونالخوف هو الذي يجعلهيقبل الخضوع، بل إنه ليرغب -لكونه يجتهد لحفظ وجوده باتِّباعأمر العقل، أي لكونه يجتهد لكي يحيى حُرّا- في ﭐتِّباعقاعدة الحياة والمنفعة المشتركتين، ومن ثم العيش وفق الأمر المشتركـللمدينة. وهكذا فإن الإنسان في ﭐنقيادهلطبيعته الخاصة بما هو رغبة يكون خاضعا حتما للضرورة الطبيعية،وبالتالي فإن حريته الحقيقية لا تتم إلَّا على أساس ﭐمتثالهلِأمر العقل كما يتجسد في القوانين المشتركة في"المجتمع المدني" حيث يعيش بحريةٍ فلا يخضع لرغباته الطبيعية ولَالرغبات غيره (وكلتاهما تُهدِّد حياته ومنفعته في النهاية)،وإنما يوجد ويتصرف بحسب ما يُمْلِيه عليه أمر العقل في إطارمجتمع مدني وديموقراطي.
ويأتي "جون-ﭙول سارتر" (1905-1980)، في أعقابكل من "ديكارت" و"إسـﭙينوزا" و"كنط"، ليؤكد أنﭐمتناع تعقُّل فكرة اللـه كخالق أعظم يجعل الإنسان كائنا يسبق وجودُه ماهيتَه، أيأنه كائن من دُون إلَاهٍ يتصور ماهيته قبل خلقه على نحو مُحدَّد ومُحدِّد.فالإنسان يوجد أولًا، ثم يصنع نفسه ويُحدِّدُ ما يجب أن يكون عليه وجوده، إنهينقذف من العدم إلى الوجود فيجد نفسه حرا يستطيع أن يفعل بنفسه ما يشاء، بل إنهمُجبَرٌ على أن يكون حرا فيمارس قدرته المطلقة على الاختيار، فهو في وجوده تصميمٌيُلْقَى به دائما نحو المستقبل، في صورة مشروع أو إسقاط مُقبِلٍ لَا يسبقه أيمُخَطَّطٍ قَبْلي يُمكن أن يحدِّده فيَحُدَّ ﭐندفاعه نحو الوجود والفعل. فالْإنسانتَوَثُّبٌ وﭐندفاع إلى الأمام لا يخضع لا إلى ماضيه ولَا إلى حاضره، لِأنه ذاتٌمُتعاليةٌ على كل التحديدات والشروط الموضوعية، ذاتٌ حرةٌ بما هي نزوع نحو الاختياروالاستقلال ؛ الأمر الذي يجعل الإنسان يَصْطَنِعُ نفسَهُ ويفعل بها حسب ﭐختياره،ومن ثم فهو مسؤول عما يصنع بنفسه، وفي مسؤوليته هذه عن نفسه تتمثل مسؤوليته عن الإنسانيةبكاملها، من حيث إنه مُكْرَهٌ على أن يكون حُرًّا في ﭐختياره، ﭐختياره للْإنسانبكل ما يُقوِّمه كرغبة في تَمَلُّكـ نفسه، وهو التملكـ الذي يؤدي إلى خلقه كأساسحُرٍّ لوجوده الفاعل والواعي.
* تركيب وﭐستنتاج
ولكن يمكننا أن نُلاحظ أنه إذا كان إسـﭙينوزا يميل إلىجعل حرية الإنسان غير ممكنة إلَّا نتيجة سعيه لتعقل وتعقيل "الضرورة الحرة"التي تَحْكُمه ككائن طبيعي وﭐجتماعي، فإن سارتر لَا يرى أي إمكان لوجود الإنسان فيهذا العالم إلَّا بصفته الكائن الذي تتحدد رغبته الأساسية في أن يكون إلَاهًا، منحيث إنه لَا يملكـ أن يكون فاعلًا إلَّا إذا كان هو نفسه أساس وأصل وجوده الذييُلَازِمُه ﭐختيارُه الخالقُ لنفسه، وذلكـ لكونه ليس شيئا آخر سوى ما يصنع بنفسه.وهكذا يتبين أن تصور الإنسان كفاعلية حرة في خضم واقع مليء بالحتميات لم يكن ممكناعند سارتر إلَّا بواسطة قَلْبٍ جذري لتصور إسـﭙينوزا بحيث يتم الانتقال من"تأليه الطبيعة" إلى "تأليه الإنسان"، وهو الانتقال الذييتجلى كتأسيس لـ"مركزية إنسانية" ما فَتِئ يُعَزِّزُها مشروع الحداثةمنذ عصر الأنوار، ولكن من دون أن يضمن لها قياما واقعيا وموضوعيا يُجَنِّب "الإنسان-الإِلَاه"الارتكاس إلى وضع "الإنسان-العبد" في خضوعه لـ"الضرورة الحرة"المرتبطة بِشروط "وضعه البشري" في هذا العالم الذي يتجاوزه ويَمْلِكُـأن يُزيحه عن رتبته فيه على الرغم من إرادته وتصميمه، فيُلْقِي به من ثم دون وجودهعَدَمًا كَأَنْ لم يكن شيئا!
* خُلَاصة عامة لمفهوم الشخص
يمكن النظر إلى الوجود الإنساني في تميزه عن الكائنات الأخرىبصفته ذاتا تتمتع بالوعي والحرية، أي كشخص له القدرة على الفعل بشكل إرادي وقصدي،ممّا يجعله يتحمل المسؤولية أخلاقيا وقانونيا عن أفعاله. لكن تحديد الإنسانكـ"هوية شخصية" تتميز بالوعي والحرية وكـ"قيمة عُليا" تتفردبين كل كائنات هذا العالم لا يتم إلَّا على نحو إشكالي، حيث إن تصور ما يُقَوِّم"الهوية الشخصية" باعتباره مُعطًى أصليا وكليّا سرعان ما يصطدم بمشكلة التغيُّراتوالتفاوتات التي يَعِجُّ بها الواقع التاريخي والاجتماعي لِلإنسان. ومن ثم فإن «إسناد صفة"شخص" إلى فرد ما يقتضي وجود نظام من الرموز، أي منطق للتمثلات وعَتَادمن الطقوس، بفضله تُعطى له مكانة ودور في المجتمع ويُضمَن له الاعتراف القانوني والأخلاقي».فـ"الشخص" -سواء في تميُّزه ككيان فاعل، واعٍ ومسؤول أو كذات لها كرامةواجبة الاحترام- يُعَدُّ بناء تاريخيا/ﭐجتماعيا/ثقافيا ضمن مجموع الشروط التي تحكموجود الإنسان بصفته وجودًا تفاعليا وزمنيا فتجعله لا يتحقق إلَّا كمعقولية مفتوحةتعمل على تجاوز الضرورة الملازمة للوجود الإنساني من خلال التعقل/التعقيل المتدرجوالإشكالي لِأسبابها، على نَحْوٍ يُمَكِّن من قيام الفاعلية الإنسانية كتفاعُلمعرفي وأخلاقي وسياسي في إطار صيرورة ﭐجتماعية وتاريخية ضمن شروط هذا العالم.