المفهوم الثاني: الغير
- تقديم مفهوم الغير
يُنظر عادةً إلى "الغير" بما هو "الآخر"المخالف، بهذا القدر أو ذاكـ، للذات (سواء أكانت فردية "أنا" أم جماعية"نحن")، المخالف لها فيما تتميز به من سمات وخصائص، وما يُحدِّدها منشروط وأوضاع. فـ"الغير" هو "الآخر" البعيد أو الأجنبي أوالغريب، إنه ليس فقط المخالف للذات أو الأنا، بل إنه الآخر المسلوب أو المنفيّ أوالمستبعد. وبناء على هذه النظرة إلى "الغير"، تُتَّخذ المواقف منه.فالآخر المجهول أو الغريب يُواجَه باللامبالاة أو الاستغراب، والآخر المنافس أوالعدو يُقابَل بالكراهية أو الحرب، والآخر الشبيه أو المماثل يُقابَل بالصداقة أوالمؤاخاة. وهكذا، فإن "الغير" في الاستعمال الشائع يجمع بين معنى"المُبايَنة" (كل ما يُبايِن الذات ويُخالفها) ومعنى "البُعد"و"الغرابة" (كل ما ليس قريبا أو مألوفا). لكن على المستوى الفلسفي يتحدد"الغير" بأنه "أنًا آخر"، أي "الآخر الإنساني" بماهو أيضا "أنا" أو "ذات" في مقابل "أناي" أو"ذاتي"، إنه "أنا" آخر غيري. فـ"الغير" -بما هو"إنسان آخر"- يُعدُّ مُماثِلا لي، لكنه بـ"ما هو نفسه" يختلفعني ويُغايرني بصفته "أنا" أو "ذاتا". ومن هنا فإنه يتحددبالازدواجية: فهو -رغم كونه إنسانا مثلي- مُبايِنٌلي، لأن ذاته ليست ذاتي وأناه ليس أناي ؛ إنه "أنًا آخر" أو "ذاتأخرى" بما أنه موجود خارج ذاتي ؛ وهو، في الآن نفسه، مُماثِل لي من حيث إنهليس مجرد شيء، وإنما له كل مقومات "الذات" أو "الأنا" التي أملكهابالتساوي معه. وهكذا، فالتفكير في "الغير" يبدأ من مجرد إدراكـ"الأنا" و"الذات" بمقتضى ما يُقَوِّمُها ويُميِّزهاكـ"هوية" أو بكونها "ما يُماثل نفسه" فـ"يُباين" أو"يُخالف" غيره.
- الوضعية-المشكلة
يُحِيلُ "الأنا"، في دلالته على"الذات" أو "النفس" كجوهر متميز، إلى كائن مفكر له القدرة علىالوعي والمعرفة، بحيث تكون الأشياء في مقابله موضوعا لفعله، أي مفعولًا بهاباعتبارها وسائل بين يديه موضوعة تحت تصرفه. ومن حيث إن "الأنا" يكونحضورا دائما أمام نفسه (بمقتضى خاصية الوعي المميزة للذات المفكرة)، فإن "الغير"بما هو "أنا آخر" يُمَثِّل مشكلة تُثير عددا من الأسئلة: كيف يتحدد"الغير" في مقابل "الأنا"؟ هل بصفته "أنا آخر"متعاليا ومفارقا أم بصفته موضوعا أو شيئا؟ وكيف يمكن للذات أو الأنا أن تَعْرِف"الغير" في حقيقته كـ"أنا" أو كـ"ذات مفكرة وواعية"مغايرة؟ كيف تُمكن معرفة "الأنا الآخر" إذا كانت معرفة"الأنا" نفسه لا تكون أصلًا إلا كمعرفة مباشرة؟ ألا يَفْقِد "الأناالآخر" في خلال فعل المعرفة صفاته كـ"أنا" بمقتضى أن هذا الفعل يُوجبتحويله إلى موضوع أو شيء؟ وكيف يمكن التيقُّن من وجود "الغير" بما هوأنا آخر، إن كان لا يمكن أن يُعرف أصلا إلا كموضوع؟ هل يقتضي الوجود الإنسانيالاتصال والتواصل بين الذوات؟ وكيف يمكن أن يتحقق هذا التواصل من دون معرفةموضوعية؟ ألا يُؤدي التواصل مع الغير إلى إفقاده حريته وتلقائيته أمام تدخل"الأنا" كذات عارفة؟ كيف يمكن تجاوز حواجز وحدود التواصل بين الأناوالغير؟ ما هي العلاقات الممكنة بالغير؟ وأي إمكان للتواصل مع الغير من دون تشييءأو استلاب أو عنف؟
1- وجود الغير
- تحديد الإطار الإشكالي: ما طبيعة وجود "الغير"؟هل يتحدد بصفته "أنا" أو "ذاتا" أم أنه ليس سوى شيء أو موضوع؟كيف يمكن التأكد من وجود الغير في ذاته؟ هل يوجد "الغير" بشكل موضوعيبحيث يمكن أن يقوم كـ"أنا" أو "ذات" إلى جانب أناي أو ذاتي؟هل وجود "الغير" ضروري لوجود "الأنا" أم أن "الأنا"كيان قائم بذاته ووحدة مستقلة عن "الغير"؟
- مفاصل المعالجة
لقد أسس "ديكارت" فلسفته على تجربةالشكـ المنهجي المؤدي إلى بناء معرفة حقيقية ويقينية، حيث إن قيام فعل الشكـ يؤديفي الوقت نفسه إلى قيام "الذات" كأنا مفكر في مقابل "العالم"كآخر، وذلكـ من خلال الدخول في عزلة وجودية تجعل "الذات" (الأنا المفكر)في استقلال مطلق عن كل ما سواها. فمن أجل أن تعرف "الذات" نفسها ولكيتتيقن من وجودها لا تحتاج إلى وساطة العالم والأشياء الأخرى، بل إنها لا تحتاج إلاإلى "الفكر" كما يتجلى أساسا في فعل الشكـ الذي يمتد إلى كل شيء، بحيثيصير هو الفعل المُؤَسِّس للـ"أنا المفكر" كما يعبر عنه الكوجيتو كحدسيفرض نفسه بصفته حقيقة يقينية وبداهة واضحة، هي المرجع والأصل في ضمان حقيقة ويقينكل شيء آخر. فـ"الذات"، إذن، عند "ديكارت" تُمثِّل أنا مفكرامستقلا في وجوده عن وجود "الغير"، الذي يتوقف هو نفسه على تفكير "الذات"وحكمها. ولهذا يبدو أن فلسفة "الذات" هذه تنتهي إلى نزعة أنانية (solipsisme) تؤكد وحدانية "الذات"أو "الأنا"، من حيث إنه إذا كان وجود "الذات" كأنا مفكر هووحده الذي يستطيع أن يبني نفسه كيقين وأن يضمن، بالتالي، يقين وجود كل شيء آخر،فإن وجود الغير ليس ضروريا لوجود "الذات"، لأنه يُعَدُّ فقط وجوداافتراضيا، قابلا للشكـ وخاضعا لحكم الذات. إذ كيف يمكن أن نجد في "الذات"ما يدل على "الغير"، في الوقت نفسه الذي يُعَدُّ إدراكـ وعي آخر غير وعي"الذات" مُنافيًا لطبيعة الوعي بما هو حضور مباشر للذات أمام نفسها؟
ومع ذلكـ، فإنه لا يمكن الجزم بأن تصور "ديكارت"ينغلق في إطار وحدانية الأنا، ذلكـ بأنه يرى أن اليقين الموجود في الكوجيتو - مثلهمثل أي معرفة أو حقيقة تُدْركها الذات- ليس كذلكـ إلا في المدى الذي يُعدّ اللـهضامنًا لليقين. فإذا كان وعي "الذات" بنفسها يقينيا، وإذا كانت معرفتنابالعالم تُعدّ معرفة يقينية، ففقط لأن اللـه جعل نفوسنا المُدْرِكة أو عقولناالمفكرة على نحو من التوافق مع الحقيقية الموضوعية. وهذا ما يؤكد أهمية الكائناللامتناهي والكامل كنموذج للغير.
غير أن "هيغل" يرى أن"الوعي" ليس كيانا مجردا أو وجودا ذاتيا، مستقلا ومطلقا، وإنما هو علاقةجدلية بين وجود "الأنا" ووجود "الآخر". ذلكـ بأن الإنسانيتميز عن باقي الأشياء بكونه ذا وجود مزدوج، فهو يوجد كشيء (وجود في ذاته)، وفينفس الوقت يوجد كوعي (وجود لذاته)، أي كتأمل ينظر في نفسه ويفكر فيها. وهذا هو "وعيالذات بنفسها" أو "الوعي بالذات" (laconscience de soi)، حيث إنالإنسان حينما يُشبع رغبته كشيء طبيعي ينحصر إدراكه في الإحساس المباشر بذاته، فلايكون بَعْدُ وعيا بذاته، لأنه يكون غارقا في الحياة العضوية التي لا يخرج منها ولايتجاوزها إلا حينما لا يعود يرغب مباشرة في شيء طبيعي، بل تصير له رغبة أخرى هي أنيعترف به الآخر. لكن هذا الاعتراف لا يُعْطَى بشكل سِلْمِي، بل يُنتزع عبر صراعبين الطرفين اللذين يخاطر كل منهما بحياته حتى الموت. وبما أن الموت الفعلي لايحقق هذا الاعتراف، وإنما يحققه استسلام أحد الطرفين، بتفضيله الحياة على الموت،فإن العلاقة بين الطرفين تصير هي علاقة السيد بالعبد. وهذه هي العلاقة المُوَلِّدةفي آن واحد لـ"الأنا" (وعي الذات) و"الغير" (وعي ذات أخرى).وهكذا، فـ"الأنا" و"الغير" يوجدان من خلال العلاقة بينهما، أيأن وجود "الغير" ضروري لوجود "الأنا"، حيث إن الأمر يتجلى فيشكل علاقة بين وعيين بالذات (Deux consciences de soi).
ونجد، على مستوى آخر، أن سارتر يذهب، خصوصا في كتابه "الوجودوالعدم" واستنادا إلى هيغل وهُسِّرل، إلى أن العلاقات الاجتماعية بين "الأنا"و"الغير" تؤدي إلى تشييئهما معا، فلكي أتوصل إلى حقيقةِ ذاتي، لا بد ليأن أمر عبر الآخر أو "الغير" الذي لا غنى لوجودي عنه ولا غنى لي عنه فيمعرفة نفسي. ولهذا، حينما يكون إنسان ما وحده (طفل مثلا)، فإنه يتصرف بعفوية وحريةكاملتين. لكنه ما إن ينتبه إلى أن أحدا آخر يراقبه أو ينظر إليه حتى يضطرب وتفقدحركاته تلقائيتها، إنه يصاب بالخجل الذي هو شعور يزيد على الحالات النفسية الذاتيةبكونه يحيل إلى شيء غيره. ففي الوقت نفسه الذي يحقق الخجل صلتي بنفسي (لأنني أخجلمن نفسي أو مما أنا فيه)، فإنني أكتشف أنني أخجل من نفسي أمام شيء ما. فإذا صدرتمني حركة مبتذلة أو متدنية فإنني لا أشعر حيالها بشيء ولا ألوم نفسي ما دمت وحدي.لكن الأمر يختلف إذا أدركت أن شخصا آخر قد لمحني، مما يجعل الدم يتصاعد إلى وجنتيويعتريني نوع من الاضطراب فأتصبب عرقا. وهذا يجعل "الغير" يوجد كوسيطبيني وبين نفسي، "لأنني أخجل من نفسي كما تبدو للغير". وظهور "الغير"يجعلني أنظر إلى نفسي كموضوع من حيث إنني أبدو للغير بهذه الصفة. ويعبر سارتر عنهذا قائلا: "الجحيم هي الآخرون"، حيث إن النظرة التي يُلْقِيها عليالآخر تُخرجني من ذاتي وتُفقدني حريتي الأصلية. ولهذا، فإن مواجهة نظرة "الغير"تُعد دائما مُقلقة. لكن إذا كان "الغير" يعتبر تهديدا للذات، فإنه يمثلأيضا الوسيط الضروري الذي يمكنني من خلاله أن أوجد على نحو موضوعي وأن أعرف نفسي.فبفضل "الغير" يمكنني الوصول إلى معرفة نفسي، لِأن "الغير"ليس هو فقط من يُجَمِّدني ويَسْلُبُني، وإنما هو أيضا الذي يُحَرِّرني بانتزاعي منالانطوائية التي يظن الوعي المنعزل أنه يستطيع أن يجد فيها ملجأه. ولهذا فإن التهربورفض التواصل أمران وهميان، إذ حتى في حالة غياب الغير، فإنه يبقى حاضرا في عزلتي،لأنه يمثل الشيء الذي من خلاله تتأسس علاقتي بنفسي وبالعالم.
وفي نفس السياق، يرى "جيل دولوز" أن "الغير"ليس ذاتا تُدركني وليس شيئا أو موضوعا في مجال إدراكي، بل هو قبل كل شيء "بنيةالمجال الإدراكي"، التي لا يمكن لهذا المجال في مجموعه أن يشتغل بدونها، إنه "بنيةالممكن" التي يُحققها أشخاص فِعْلِيون أو فاعلون متغيرون (أنا بالنسبة لكـوأنت بالنسبة إلي). لكن هذا لا يمنع من أن تكون هذه البنية سابقة في الوجود، كشرطلتنظيم الأشياء عموما، بالأطراف التي تُحَقِّقُها في كل مجال إدراكي مُنظَّم(مجالكـ أو مجالي). وهكذا فإن "الغير القبلي" (autrui-apriori)، بصفته بنية مطلقة، يُؤسس نسبيةالأغيار (les autres) كأطراف تُحَقِّق البنية في كل مجالٍ إدراكي. والقول بأن "الغير"هو "بنية الممكن" لا يعني أن "الممكن" مقولة مجردة تُشير إلىشيء غير موجود، بل إن العالم الممكن المُعبَّر عنه موجودٌ تماما، لكنه لا يوجدبالفعل خارج ما يُعبِّر عنه (مثال الوجه الخائف/الشيء المُخيف). فنحن حينما ندركـالأشياء المحيطة بنا لا ندركها باستمرار ومن جميع جهاتها، وهذا يفترض وجود آخرين يدركونما لا ندركـ وحين لا ندركه، وإلا فإن الأشياء تنعدم حين لا ندركها وتعود إلىالوجود حين ندركها من جديد. غير أن هذا مستحيل، مما يجعل "الغير"يشاركني في إدراكـ الأشياء ويُكمِل إدراكي لها، وذلكـ بوصفه "الممكن الإدراكي"الذي يُحَدِّد بنية مجالِ إدراكي والذي يكون فعليا حين يحضر "الغير" فيمجال إدراكي وتخيليا حين يغيب عنه. لكن إذا كان الغير ضروريا للأنا من حيث إنالوعي بالذات لا يوجد إلا في العلاقة بوعي آخر بالذات، فهل يعني هذا أن معرفةالغير ممكنة بالنسبة للذات؟
2-معرفة الغير
- تحديد الإطار الإشكالي: هل معرفة "الغير"بما هو "أنا آخر" تعد معرفة ممكنة أم أنها مستحيلة؟ إلى أي حد يمكن أن تُعرفأفكار ومشاعر الآخر بالكيفية نفسها التي يعيشها كتجربة حميمية وباطنية؟ أم أنعلاقة المعرفة تُوجِب تحويل موضوعها إلى مجرد "شيء" يفتقد كل صفات"الذات العارفة"؟
-مفاصل المعالجة
عموما تتحدد المعرفة بصفتها فعلًا لـ"الذات المفكرة"بواسطته تدركـ "الشيء" باعتباره "موضوعا" (مطروحا أو مُلْقًىأمامها). فـ"الذات العارفة" تتجه في نشاطها الفكري نحو "الشيء"الذي يصير، بمقتضى ذلكـ، "موضوعا" (objet). وهكذا فـ"موضوع فعلالمعرفة" يقابل "الذات العارفة"، حيث تعني "الذات" الأناالمفكر، الواعي والمتمتع بالإرادة والقصدية والحرية، مما يجعله يقوم في أصل كلفاعلية في العالم، في حين أن "الموضوع" شيء مادي يفتقد كل تلكـ الصفاتوالخصائص، وبالتالي لا يمكن تصوره إلا كـ"محل لفعل الذات" (مفعول به).فهل يمكن اعتبار "الغير" (الأنا الآخر) قابلًا للمعرفة كـ"ذات"أم كـ"موضوع"؟
إن القول بأن "الغير" يمكن أن يكون "موضوعا"لمعرفة من طرف "الذات" يستلزم في نظر كثير من الفلاسفة انتفاء كل صفات "الذات"عنه (الوعي والإرادة والحرية)، حيث يصير مجرد شيء سَلْبي يتلقى فعل "الذات".ومن هنا فإن العلاقة المعرفية بين "الذات" و"الغير" تتضمنتناقضا وتبدو مستحيلة كفعل تواصلي بين وعيين بالذات.
ونجد، بهذا الصدد، أن نيقولا مالبرانش (1638-1715) يُواصلإلى حَدٍّ ما التصور الديكارتي الذي يفصل بشكل جوهري بين "الذات" و"الموضوع".إذ أنه يرى أن معرفة نفوس وعقول الآخرين ليست ممكنة إلا كمعرفة تخمينية وظنية، لأنالأمر يتعلق بـ"ذات أخرى" خارج وعينا الذاتي. لذا فإن أقصى ما يمكنالوصول إليه إنما هو افتراض أن المماثلة الموجودة بين الذاتين (كل منهما وعي) تسمحبالاستدلال بالمشابهة أو المُقَايسة (raisonnement par analogie) على إحساسات ومشاعر الذاتالعارفة. لكن هذه المعرفة معرضة للخطإ من حيث إنها تقتصر فقط على ما يدور داخلالكيان الذاتي ولا تستطيع العبور إلى الذات الأخرى، الأمر الذي يجعلها معرفة غيرمباشرة وغير يقينية.
يفترض النظر إلى "الغير" كـ"أناآخر" وجوده كواقع خارجي، كجسد له حدود ويمثل فردية متميزة وذات خصوصية. ومن هنا،فهو يُحيل إلى باطن نفسي يُوَجِّه أفعال الجسد (الحركات والأحاسيس)، مما يجعلمعرفة "الغير" مستحيلة، لأنها تُوجب تجاوز السطح الظاهر والنفاذ إلىالعمق الخفي. لكن إذا اعتبرنا أن "الغير" يتحدد كـ"أنا آخر"،فقد يكفي أن تنكفئ "الذات" على نفسها وتمارس نوعا من "الِاستبطان"(introspection) لتتبين أن "الآخر" تُمكن معرفته بقياس أفعاله وأحاسيسهعلى أفعال وأحاسيس "الذات". غير أن هذا الِافتراض، القائم على إمكانمعرفة "الغير" عن طريق الِاستدلال بالمماثلة، يمثل مفارقة في نظر ماكسشيلر الذي يرى "أنني عندما أشاهد حركات تعبير مشابهة لحركات التعبير الصادرةعني، فإنني ألتقي من جديد بذاتي أنا وليس بـ"أنا الغير"، أي أنني لاألتقي بـ"أنا" غريب. وحين ينتهي حكم المماثلة إلى إثبات أنًا مختلف عنأناي، فإنه يقرر نتيجة خاطئة". لذا، فإن معرفة حقيقية بـ"الغير"تقتضي، عند شيلر، تجاوز كل الثنائيات التقليدية (بدن/نفس، جوهر/عَرَض، ظاهر/باطن،سطح/عمق، إلخ.) للتمكن من إدراكـ الإنسان كـ"مجموع كلي" (unetotalité)، أي كوحدة جسدية ونفسية لا تقبلأي انقسام أو تجزيء، وكحقيقة متمثلة في "الهوية" الظاهرة للشخصالإنساني.
ومن ثم، فإن الفلسفة المعاصرة - خصوصا مع هُسِّرل، سارتروميرلوﭙونتي- صارت تضع "الغير" في مركز التفكير، الأمر الذي يجعلهاتنفصل عن التقليد الديكارتي الذي يُقِيم من "الذات" وحدها أساس الحقيقة.ذلكـ بأن فكرة الحقيقة أو الموضوعية تفترض ابتداء العلاقة مع "الغير"،حيث إن الاتفاق الممكن أو المطلوب حول عالم مشتركـ (التفاعل بين الذوات أو"التذاوت"l’intersubjectivité)هو الذي يضمن إمكان حقيقة تتجاوز النطاق الخاص لِاعتقادي الشخصي. إذ بدون "الغير"سيتم اختزال العالم إلى وجهة نظري الخاصة عنه.
وهكذا فإن القول بأن العلاقة المعرفية بين "الذات"و"الغير" لا يمكن أن تكون إلا موضوعية وتشييئية، ناتج –كما يرىميرلوﭙونتي- عن النظر إلى هذه العلاقة من موقع "الأنا المفكر" الفاعللنشاط المعرفة، كما يتمثل في إجراءات التقسيم والحساب والقياس والتجريد، التيتستلزم بالضرورة "التوضيع" (l’objectivation) كعملية تشييئية ؛ في حين أن ٱعتبارتلكـ العلاقة كـ"تواصل إنساني بين ذاتين تشتركان في الوجود ضمن العالم" (تذاوت:intersubjectivité) يؤدي إلى حفظ "الأنا" و"الغير" بكل صفاتهما،مما يُشير إلى أن ذلكـ الإمكان الموضوعي التشييئي ليس هو الإمكان الوحيد. فإذا كان"الغير" يوجد كمعطى بالنسبة إلي، فليس لِأنه يظهر كقوة مُكَوِّنة فيمواجهتي، وإنما بصفته -تماما مثلي- وجودا مُتجسدا، أي أنه يشتركـ معي في ٱنتماءٍجسديٍّ إلى العالم، ٱنتماء سابق على القوة المُكَوِّنة التي تتمتع بها"ٱلذات". فوجود المرء يعني كونه في العالم، و"الذاتيةالمتعالية" تُعَدُّ ذاتيةً منكشفة ومُدرَكَة لنفسها وللغير، وبهذا المعنى فهي"ذاتية بينية" أو "تذاوت". أفلَا يمكن، على هذا الأساس، أنيدخل "الأنا" و"الغير" في علاقة تواصل أو ٱعتراف متبادل تحفظلكل منهما فرديته ووعيه وحريته؟
إن "الغير" ليس هو فقط ما يُعطي معنى للعالممن حولي. إنه أيضا هو من يفرض علي الدخول في عدد من العلاقات التفاعلية، قد تكونعلاقات حب أو كره، علاقات صداقة أو عداوة، علاقات تسامح أو تعصب، علاقات قَبُول أورفض. ولهذا فالعلاقة بـ"الغير" أغنى وأعقد من أن تُختزَل إلى علاقة وجوديةأو معرفية. إنها مُرَكَّبٌ من العلاقات الِاجتماعية والِاقتصادية والوجدانيةوالأخلاقية والسياسية والدينية. فهل يُعَدُّ "الغير" صديقا لأنه قريبوغريبا لأنه بعيد؟
3- العلاقة مع الغير
- تحديد الإطار الإشكالي: ما هي العلاقات الممكنة مع "الغير"؟هل هي علاقات تكامل أم أنها علاقات تنافر؟ هل هي علاقات صداقة أم علاقات غرابة؟ وماهي محددات أنواع العلاقة مع "الغير"؟
- مفاصل المعالجة
من بين كل العلاقات الممكنة مع "الغير"، تبدوالصداقة والغرابة أبرز العلاقات التي تربطنا به. فما الذي يجعل "الغير"مرغوبا فيه بحيث يصير صديقا؟ أو ما الذي يدفع إلى عدم الرغبة فيه بحيث يكون غريبا؟هل هو مجرد القرب والبعد سواء كان زمانيا أو مكانيا أو وجدانيا أو اجتماعيا أوثقافيا أو دينيا؟ لماذا يرتبط "الأنا" بـ"الغير"؟ هل لأنهنافع ومفيد أم لأنه جميل وحسن أم لأنه خَيِّر وطيب؟ أم أنه بأضداد هذه الصفات كلهايتم اعتبار "الغير" غريبا؟ هل الغريب ضار وقبيح وشرير بالضرورة؟ هلنصادقه لأنه شبيهنا أم بما هو مُغاير لنا؟
تُعَدُّ الصداقة الوجه الإيجابي للعلاقة بـ"الغير".وتتحدد، في الواقع، بأنها علاقة حب صادق تنشأ بين إنسانين. ونجد، بهذا الصدد، أنأفلاطون يقوم بالنظر في موضوع الصداقة في محاورة لِيزِيس (Lysis)، وينتهي إلى القول بأنها علاقةحب متبادل بين "الأنا" و"الغير"، تستند إلى حالة وجودية هيوسط بين الكمال المطلق والنقص المطلق، بين الخير المطلق والشر المطلق. ذلكـ بأن كلمن كان يتصف بالكمال والخير المطلقين، فهو يوجد في حالة اكتفاء ذاتي تجعله غيرمحتاج إلى "الغير" ؛ وأما من كان يتصف بالشر والنقص المطلقين، فلا يمكنهأن يجد في نفسه الرغبة لطلب الكمال والخير. ولهذا السبب فإن الصديق هو من يتصف بِقَدْرٍكَافٍ من الخير والطيبوبة، قَدْر هو الذي يدفعه إلى طلب خير أكبر أو كمال أسمى،وبقدر من النقص لا يحول دون البحث عما يُكمله لدى "الغير".
ومن جهة أخرى، يتناول أرسطو الصداقة بما هي قيمة أخلاقيةومَدَنِيَّة. فالصداقة لديه تُعَدُّ تجربة معيشة وضرورية للحياة المشتركة، لا تقومعلى مجرد الحب الأفلاطوني. إذ هناكـ عدة أنواع من الصداقة، أهمها صداقة المنفعةوصداقة المتعة وصداقة الفضيلة. ويرى أرسطو أن النوعين الأولين -بحكم توقفهما علىالمنفعة والمتعة- مُتَغَيِّران، يوجدان بوجود المنفعة والمتعة ويزولان بزوالها.ولذا، فهما لا يمثلان الصداقة الحقيقية التي هي صداقة الفضيلة والتي تقوم على محبةالخير والجمال لذاتهما، مما يجعلها كاملة ودائمة. وفي هذا النوع من الصداقة تتحققالمنفعة والمتعة كلتيهما. ولذلكـ، فإن "صداقة الفضيلة" نوع نادر، بل إنهلو أمكن تحققها بين الناس لما ٱحتاجوا إلى شيء آخر بعدها، حتى لو كان القوانين والعدل.
لكن الصداقة، من حيث هي علاقة ممكنة وإيجابية مع"الغير"، تبقى قائمة على نوع من القرب العاطفي أو الاجتماعي أو العرقيأو الديني أو الثقافي ؛ بحيث إن كل من ليس قريبا بهذا المعنى يُعتبر غريبا ويُوصفبأنه مجهول، غير مألوف، غامض ومُخيف ؛ وبالتالي يتم عزله أو رفضه أو إقصاؤه بوصفهعنصرا طُفيليا أو دخيلا، بإمكانه أن يتسبب في الاختلال والفساد، بل يوضع موضعالمسئولية عن كل شر محتمل. غير أن هذا كله يفترض أن "الأنا" أو"النحن" يتمتع دائما بنوع من "الهوية" التي تتسم بالوحدةوالتناغم والِاستمرار والِاستقلال، حيث إن كل ما يرتبط بالِاختلاف والتعددوالتناقض والتغير يوجد أو يُنْفَى خارج الذات الفردية أو الجماعية. وبالفعل،فعندما نتأمل في الأمر نجد أن سمات التغاير هاته كامنة في الذات نفسها سواء كانتفردية أو جماعية، فالإنسان لا يستطيع أن ينفكـ عن التغير الذي يلحق أحواله وأوضاعهوأفكاره، على نحو يجعل "الذات" أو "الأنا" نفسها تتغيرفتتغاير باستمرار. ولهذا فإن "الغريب يسكننا على نحو غريب" كما تقولجوليا كريستيـڤا، من حيث إنه في الواقع جزء لا يتجزأ من "الذات".فـ"الغريب" ٱسْمٌ مُستعارٌ (وليس حقيقيا) يدل على الكراهية والحقد كـ"آخر"غير مرغوب فيه، مُستبعَد ومَسْلُوب، بل كـ"عدو" يجب القضاء عليه لحفظ السلموضمان الِاستمرار. من هنا، يتبين أن "الغريب" يتحدد كقوة خفية كامنةداخل هويتنا نفسها وكـ"عَرَض" دَالٍّ" يجعل هذه "الهوية"(سواء أكانت فردية أم جماعية) إشكالية، بل مستحيلة ؛ الأمر الذي يجعل "الغرابة"غير مقتصرة فقط على "الغير" البعيد (أو الأجنبي، المهاجر، الجنس الآخر،المجتمع الآخر، الثقافة الأخرى، الدين الآخر، إلخ.). ولذا، فحينما نتعرف على"الغريب" في داخلنا، نوفر على أنفسنا أن نكرهه أو نُقصيه كما لو كانشيئا يوجد في ذاته وفي ٱستقلال عنا. فـ"الغريب" ينشأ من الوعي بالِاختلافوالتعدد باعتباره يشكل الفضاء حيث يتبلور الوجود الإنساني. وعلى هذا، فإن معرفتنا بأنفسناتُمَكِّنُنا من أن نُدرِكـ أننا "غرباء عن أنفسنا".
ومن ثم، فإن ٱرتباط "الذات" بـ"الغير"،سواء في وجودها أو في معرفتها، يُوجِبُ الِابتعاد عن مواقف الرفض والإقصاء والعداءتُجاه "الغير"، والدخول في سيرورة الِاحترام والتحاور والتسامح معهباعتباره "أنا آخر"، أي كائنا بشريا، قد يكون أخًا مُشاركا لنا أو نظيرامساويا، مما يجعل وضع الاختلاف والتعدد وضعا مُلَازِمًا للوجود البشري الأصيل في هذاالعالم. والدخول في تلكـ السيرورة التحاورية والتعارفية يُعَدُّ نوعا من التفاعلالِاجتماعي والتواصل الثقافي الذي يُغني "هوية الذات" ويُقَوِّي إمكاناتالِاستفادة من التنوع الطبيعي والثقافي بين الناس في هذا العالم الذي يتحدد أساساكمجموعة من الشروط المتفاوتة والمختلفة التي تحكم الوجود الإنساني في تَحَوُّلهوتغايره الدائمين. وهكذا تُطرح مشكلة إمكانات التدبير العقلاني لهذا الوجودالإنساني في تعدده واختلافه على نحو يُيَسِّر قيام "الآخر" كشبكة منالعلاقات المركبة والمفتوحة التي تؤسس "البشرية" كاستمرار متعدد وكإبداعغير مُنْتَهٍ في مجموع الشروط التي تحدد "الوضع البشري" كصيرورةٱجتماعية وتاريخية.