مجزوءة II: المعرفة
1- النظرية والتجربة
تقديم المجزوءة الثانية
إن تناول "الوضعالبشري" كجملة من الشروط المُحدِّدة لوجود الإنسان في هذا العالم يترتب عنه تكوينتصوُّر معين نعرف من خلاله "الواقع الإنساني"، مما يُؤدي إلى التساؤلعن نوع هذه المعرفة وأهميتها وحدودها، إذ تتحدد المعرفة بأنها "مجموعةمن التصورات التي نعتقد صدقها وصحتها بهذا القدر أو ذاكـ". ومن هنا، فإنموضوع المجزوءة الثانية يتعلق بشروط بناء المعرفة ومعايير التمييز بين أنواعها ومدىتبيُّن حدودها وأهميتها في الفعل الإنساني. وهذا ما يجعلنا نطرح أسئلة أساسية عنكيفية بناء "المعرفة العلمية" وتميُّزها عن غيرها وقيمتها في حياةالإنسان. وترتبط هذه الأسئلة بعدد من مجالات البحث التي تتحدد بالخصوص في"نظرية المعرفة" و"فلسفة العلم" و"تاريخ العلوم"و"العلوم المعرفية".
المفهوم الأول: النظريةوالتجربة
* تقديم المفهوم
تُمَثِّلُ "النظرية"في الِاستعمال العادي "نظرا فكريا حول موضوع ما، نظرا أو فكرا يَكُون عامّاومُتَّسقا بهذا القدر أو ذاكـ". لكن أهم معاني "النظرية" تتجلى فياعتبارها "تمثُّلًا عقليا لَا يُطابق تماما الوقائع في الممارسةالفعلية" (يُقال: "هذا أمر صحيح على مستوى النظرية، لكنه ليس كذلكـ فيالممارسة أو التطبيق") أو اعتبارها "بناء ذهنيا/فكريا يربط عددا منالقوانين بمبدإ معين يمكن أن تُستنبط منه" (نظرية النسبية، نظرية الكم، نظريةالفعل). وفي هذين المعنيين تبدو "النظرية" مجموعةً من الأفكار المجردةوالعامة التي لا علاقة فعليةَ لها مع عالم التجربة في الواقع العيني (أي مجموعالوقائع الخارجية التي تتميز بكونها "حسية" و"جزئية"). ومنهنا، يقوم التعارض بين "النظرية" و"التجربة" ويؤدي إلى طرحإشكال "المعرفة" متمثلا في التساؤل عن العلاقات الممكنة بين ما يتحددكـ"مبادئ مجردة وعامة للذهن" وما يُعَدُّ "معطيات حسية وجزئيةللواقع التجربي"، ومن ثم التساؤل عن معايير الفصل بين "النظريةالعلمية" و"النظرية غير العلمية"، أي ما يُميِّز "العقلالعلمي" عن غيره من أشكال الفكر.
* الوضعية-المشكلة
ترتبط أنشطة "المعرفة"عند الإنسان بإنتاج أنساق فكرية تُسمَّى "نظريات" بغرض الِاستجابةلمختلف الحاجات المتعلقة بالفاعلية الإنسانية في هذا العالم. فهل يتعلق الأمر في"النظرية" بـ"بناء فكري" يُشَيِّدُه ذهن الإنسان في استقلال كُليٍّعن عالم التجربة الحسية الخارجية أم أن "النظرية" تُشْتَقُّ من المعطياتالتجربية الحسية؟ ما العلاقة الحقيقية بين "النظرية" و"التجربة"؟هل هما متصلتان أم منفصلتان في الممارسة المعرفية للإنسان؟ كيف تتحدد البنيةالمعرفية للنظرية؟ ما هي وظائفها؟ هل تتمثل في وصف الواقع أم في تفسيره أم فيالتنبؤ به؟ وما خصائص التفكير العلمي الذي يبني النظريات؟ ما العلاقة بين نمطالعقلانية العلمية وأنماط العقلانية الأخرى؟ وما هي معايير الفصل بين "النظرياتالعلمية" و"النظريات غير العلمية"؟
1- التجربة والتجريب
* تحديد الإطارالإشكالي: ما علاقة "النظرية" بـ"التجربة"؟وما الفرق بين "التجربة العادية" و"التجربة العلمية"؟ ما هيشروط "التجربة العلمية" وما هي إجراءاتها؟
* مفاصل المعالجة:
ثمة فصلٌ شائعٌ بين"ما هو نظري" (أو فكري) و"ما هو عملي" (أو تجربي) يرجع إلىأقدم العصور، حيث ٱعْتُبِر "النظر" فكرا مجردا وعاما له صلةبـ"العقل" في سُمُوِّه وتعاليه واستقلاله، في حين عُـدَّ"العمل" (أو "الممارسة") شيئا مرتبطا بما هو حسي، مبتذلومتناقض. ومن هنا كُرِّس، في تاريخ الفكر الإنساني، الفصل والمفاضلة بين "ماهو نظري" و"ما هو عملي". ويبلغ هذا الفصل أقصى مدى له في التعارضالقائم، منذ القديم، بين "المثالية" و"الواقعية"، الذي أصبحقائما، في العصر الحديث، بين "العقلانية" و"التجربانية". فـ"العقلانية"(خصوصا مع ديكارت) ترى أن "العقل" مصدرٌ مستقلٌّ للفكر والمعرفة، لأنالإدراكات الحسية ليست موثوقة وصادقة ؛ في حين تؤكد "التجربانية" (خصوصامع جون لوكـ ودافيد هيوم) أن التجربة الحسية هي المصدر الحقيقي لكل فكرة، حيث إنالعقل ليس سوى صفحة بيضاء أو تلميذ يتلقى تلقينه من التجربة. ولتجاوز هذا التعارض،يرى إيمانويل كانط (1724-1804) أن المعرفة غير ممكنة بدون تجربة، إذ كل معارفناتبتدئ مع الإدراكات الحسية، لكن هذه المعطيات لا تُمثِّل وحدها معرفة، لأنها تبقىجزئية ومتنوعة ومتناثرة، إنها تحتاج لتدخُّل "العقل" الذي يقوم بتركيبهاوتنظيمها وفق مبادئه ومقولاته القَبْليّة، مما يجعل المعرفة بناء متكاملا بينمعطيات التجربة الحسية ومبادئ العقل الصُّورية. وفي النصف الثاني من القرن 19،قامت "الوضعانية" (مع كونت) و"المادية" الجدلية والتاريخية(مع ماركس وإنغلز) بتأكيد أهمية "التجربة" أو "الممارسة" فيبناء "النظرية العلمية"، حيث إن العلم يقوم على ملاحظة الظواهر الطبيعيةوالإنسانية ويعمل على تحديد القوانين التي تحكمها، تماما بخلاف التأملاتالميتافيزيقية في الفلسفة التي تفسر الأشياء بناء على مبادئ وعلل مجردة ومطلقة.
وفي نفس السياق، يذهب كلودبرنار (1813-1878 [Claude Bernard])إلى أن طبيعة الإنسان الميتافيزيقية جعلته يَضِلُّ طويلا باعتقاده أن الأفكارالمثالية تعبر عن الواقع، قبل أن ينتهي إلى التأكد من عُقْم ذلكـ المسعى. ولهذافإن الممارسة العَمَلية للعالِم تُبَيِّن أن الفكرة لا تنبثق في الذهن إلا انطلاقامن ملاحظة الوقائع الحسية، مما يؤدي إلى إقامة التجربة وفق شروط محددة للتحقق منصدق الفرضية، وبالتالي تَنتُج وقائع جديدة تستدعي الملاحظة أيضا. فالعالِم الكاملهو الذي يجمع بين "النظرية" و"التجربة"، إنه مُلاحِظومُجَرِّب في الآن نفسه. وهذا يجعل من المستحيل الفصل بين "النظرية" و"التجربة"في الممارسة العملية عند العالِم ويؤكد اتصالهما الذي يسمح بالحديث عن"الاستدلال التجريبي".
غير أن رُوني طوم (1923-2002[René Thom]) يرى أنه ليس هناكـ "منهج تجريبي" كنسق من المبادئ والقواعدالتي يجب على العالم أن يَتَّبِعها بشكل صارم، وإنما هناكـ فقط "ممارسةتجريبية" تقوم على جملة من الإجراآت (إيجاد وتجهيز المختبر، وضع مواد معينة،إحداث تغييرات في نظامها، تسجيل النتائج بدقة) تؤدي إلى إنتاج "وقائع تجريبية"قابلة لإعادة البناء ومتعلقة بالِاهتمام النظري للعالِـم في تميُّزه عن الِاهتمامالعمَلي للإنسان العادي. كما يرى "طوم" أن التجريب عاجز وحده عن اكتشافأسباب الوقائع، مما يجعله في حاجة إلى التفكير العقلي الذي يُعَدُّ عمليةً معقدةًوصعبةً لا تخضع لأي رتابة أو منهج.
* تركيب واستنتاج
تتحدد الممارسة العلميةكعمل يبني أنساقًا نظريةً لتوصيف و/أو تفسير مختلف الوقائع في هذا العالم. وإذاكان من الشائع الفصل بين "النظرية" كفكر مجرد وعامٍّو"التجربة" كمعطيات حسية وجزئية، فإن الواقع الفعلي للبحث العلمي لايقبل الفصل بين "النظري" و"التجربي"، حيث إن"النظرية" كفكرة تتولد من مُلاحظةِ الوقائع وتحتاج كفرضية لإجراء "التجريب"للتمكن من إثباتها.
2- العقلانية العلمية
* تحديد الإطارالإشكالي:ما هي خصائص التفكير العلمي؟ كيف يتميز نمط "العقلانية العلمية" عن غيرهمن أنماط التفكير الأخرى؟ هل "العقل" نمط واحد أم أنماط متعددة ومختلفة؟وهل "العقل" مجموعة من المبادئ والقواعد الثابتة والكلية أم أنه قدرةعلى إنتاج المبادئ والقواعد لا تتحقق إلا بالنسبة إلى شروط تاريخية واجتماعيةوثقافية معينة؟
* مفاصل المعالجة
تذهب "العقلانية"إلى أن "العقل" مبدأ مثالي، مستقل ومُتَعالٍ على الواقع المادي، ولهالقدرة المطلقة على الوصول إلى الحقيقة والمعرفة. وفي المقابل ترى "التجربانية"أن المعرفة نتاجٌ للملاحظة والتجريب، نتاج يلعب فيه العقل دور التلميذ الذي عليهأن يتعلم كل شيء من أستاذه الذي ليس شيئا آخر سوى "التجربة الحسية".ونجد أن "الوضعانية" مع أوغست كونت تؤكد أن الفكر الإنساني سعى عبرتطوره إلى بلوغ مرحلة الرشد التي تتمثل في "العلوم الوضعية" بما هي عملعلى وصف "العلاقات" القائمة بين مختلف ظواهر الطبيعة على نحو يُمَكِّنمن صياغتها في شكل قوانين تفسيرية. وعلى هذا الأساس ترى "الوضعانيةالمنطقية" أو "التجربانية المنطقية" أن المعرفة العلمية تتميز عنكل أنماط التفكير الأخرى بقيامها على الملاحظة التجربية وقابلية قضاياها للتحققبواسطة الاختبارات التجريبية ذات الطابع الموضوعي. ولهذا فإن هانز رايشنباخ (1891-1953[Hans Reichenbach]) يؤكد أن "العقلانية"نزعة فلسفية ومثالية تقول بأن "العقل" له قدرة ذاتية على بلوغ حقائقالأشياء بشكل مباشر بواسطة "الحدس" أو "الاستبصار" (l’intuition)، في حين أن المعرفة العلمية تعدمعرفة معقولة لكونها تعتمد على مناهج موضوعية قائمة بالأساس على الملاحظةالتجريبية بصفتها مصدرا لاكتشاف القوانين العامة للعالم الفيزيائي. ومن هنا، فإنالعالِم حينما يتخلى عن الملاحظة التجريبية يقترب من "النزعة الصوفية"التي تُؤمِن بالقدرة الحدسية للعقل على معرفة الواقع بدون وسائط (استبعادالاستدلال سواء كان استنباطا عقليا أو استقراء تجريبيا). وفي نفس الصدد، يرى روبيربلانشي (1898-1975 [Robert Blanché])أن العقلانية العلمية "عقلانية تجريبية" تؤكد فاعلية العقل من خلالاصطدامه بالتجربة التي تُـنَبِّهه وتَحُـثُّه على العمل لإعادة تنظيم ذاته، ممايجعلها تتجاوز "التجربانية" التي تعتبر العقل مجرة مرآة تعكس سلبيامعطيات التجربة الحسية، كما تتجاوز "العقلانية القَبْلِية" (مثاليةكانط) التي تتصور العقل كمجموعة من المبادئ والمقولات الثابتة والمطلقة التي تسبقكل تجربة. ومن جهة أخرى، يذهب جون أولمو (1905-2002 [JeanUllmo])إلى أن العقلانية المعاصرة تنظر إلى العقل كنوع من القدرة على القيام بعمليات وفققواعد محددة، أي أنه نشاط وفعالية محددان بواسطة شروط تسمح بقيامهما، وذلكـ علىالعكس تماما من العقلانية الكلاسيكية (ديكارت، كانط) التي تحدد العقل كنسق منالمبادئ والقوانين الكلية والمطلقة.
* تركيب واستنتاج
إن التساؤل عن أصولومبادئ العقل يقودنا، في نظر جون-ﭙيير فرنان (1914-2007 [Jean-PierreVernant])،إلى تأكيد أن العقل ظاهرة بشرية محددة بمجموع الشروط التاريخية والاجتماعيةوالثقافية التي تحكم الفعل الإنساني في هذا العالم. فـ"العقل" ليس سوىمجموع أشكال التفكير وطرق التعبير التي مارسها الإنسان في سعيه للمعرفة وهو يتقلبعبر أطوار التاريخ. وبالتالي فإن العقل ليس نسقا من المبادئ المسبقة والنهائيةالتي تتجاوز الشروط التاريخية والاجتماعية، بل إنه ممارسة حيوية ودينامية تلازمالتاريخ البشري في جميع مستوياته.
3- معايير علميةالنظريات العلمية
* تحديد الإطارالإشكالي: كيفيتم التمييز بين "النظريات العلمية" و"النظريات غير العلمية"؟ما هي المعايير التي تُمَكِّن من تحديد صحة وصلاحية النظرية العلمية؟ هل هي معاييرقائمة على خصائص البناء الداخلي لنسق النظرية أم أنها معايير متعلقة بقابليةالتحقق التجريبي من صدق النظرية في علاقتها بمعطيات الواقع الخارجي؟
* مفاصل المعالجة
تتحدد "النظرية العلمية"كنموذج منطقي أو بناء فكري يعمل على وصف وتفسير "الوقائع" أو "الظواهر".وهذا يجعل علمية النظريات تقوم على مدى تماسكـ البناء الداخلي بين القضاياالمُكوِّنة لنسقها وعلى مدى تطابقها مع معطيات الواقع التجريبي الذي تصفه.وبالتالي فإن أي نظرية تطمع في العلمية لا بد لها من أن تخضع لمِحَكِّـ الفحصالنقدي الذي يبين مدى خضوعها لمقتضيات التفكير العلمي. ونجد أن ممارسة النقد كفحصتشكيكي وكتمحيص استدلالي يمثل أحد المعايير الأساسية التي تحكم التفكير العلمي.وفي هذا المجال، يؤكد الحسن بن الهيثم (965-1039م)أن الحقيقة منغمسة في الشبهات ومحاطة بالظنون، مما يوجب على العالِم أن ينظر فيالأقوال والأفكار بعين التمحيص والفحص، حيث يكون خصما لكل ما يتلقى، من دون أنيتساهل مع نفسه بالوثوق الزائد في قدراته الذاتية أو بالتحامل على الخصم. فالنقـديقتضي تبين ضروب الاشتباه ومواضع التناقض في الأقوال والأفكار، وذلك بالاعتماد علىالأصول المقررة وربط الفروع بها لحفظ الاتساق وتصحيح الأغلاط العارضة.
ويرى ﭙـيير دوهيم (1861-1916 [Pierre Duhem]) أن "النظرية العلمية"،كما تتجسد في النظرية الفيزيائية، إنما هي نسق من القضايا مَصُوغ بطريقة رياضيةواستنباطية على نحو يجعله يمثل، بأكبر قَدْرٍ من البساطة والدقة والتمام، مجموعةمن القوانين التجريبية. فالنظرية الفيزيائية تعمل على الوصف الرياضي للقوانينالتجريبية، مما يقتضي أن تكون متسقة في بنائها الداخلي وأن تكون مُمثِّلة بشكلصادق للقوانين التي تحكم العالم الفيزيائي.
غير أن كارل ﭙـوﭙـر (1902-1994[Karl Popper]) يذهب إلى أن معيار الفصل بين "النظريةالعلمية" و"النظرية غير العلمية" لا يتحدد بشكل إيجابي في علاقتهبالتجربة. فـ"النظرية" لا تقبل أبدا أن يتم إثباتها بواسطة الاختباراتالتجريبية. ولهذا، فإن أي نظرية لكي تكون علمية لا بد لها من أن تصوغ قضاياها بشكليجعلها قابلة للتكذيب أو التفنيد بناء على معطيات التجربة، مما يجعل "النظريةالعلمية" بناء منطقيا مُهدَّدا دوما بخطر التكذيب في مواجهة الوقائعالتجريبية.
* تركيب واستنتاج
يتم التمييز بين "النظريةالعلمية" و"النظرية غير العلمية" بالاستناد إلى الشروط المنهجيةالتي تخص مجالات العلم باعتبارها مجالات تقوم على ممارسة التفكير والبحث حول ظواهرالعالم باعتماد إجراءات وطرق تَكْفُل تناول موضوع الدراسة على نحو يُمَكِّن منبناء نماذج نظرية توصيفية وتفسيرية. وعموما فإن هذا الفصل على مستوى النظرية بين "ما هو علمي" و"ما هو غيرعلمي" يؤدي إلى تحديد معايير التمييز التي تتمثل، من جانب، في الاتساقالداخلي لمُكوِّنات البناء النظري (الطابع الِاستنباطي والتنسيقي للنظرياتالعلمية) وتتمثل، من جانب آخر، في إمكان التحقق التجريبي من صدق النظرية، سواء فيفحص القضايا أو في الاختبار السلبي للنسق النظري كله.
* خلاصة عامة لمفهومالنظرية والتجربة
يتعلق موضوع "النظريةوالتجربة" بعدد من الأسئلة الإشكالية التي تدور حول الكيفية التي ترتبط بهاالأفكار بالوقائع التجربية وخصائص التفكير العلمي بما هو تفكير عقلاني، وبالتاليحول المعايير التي تُتِيح التمييز بين هذا التفكير وغيره من أنماط التفكير. ومنخلال تناول مجموع هذه الأسئلة، يمكن أن نستخلص أن "النظرية" لا تقبلالفصل عن التجربة في الممارسة العلمية، حيث إن العالِم شخص يُلاحِظ ويُجرِّب في آنواحد في إطار مجال نظري له أسئلته الخاصة التي يسعى للإجابة عنها باعتماد إجراءاتمحددة تسمح بالتفكير المنهجي في الظواهر المدروسة. ولهذا، فإن العقلانية العلميةتقوم على ممارسة منهجية للتفكير، ممارسة مرتبطة بالشروط الِاجتماعية والتقنيةوالثقافية التي تُحدِّد أشكال وطرق التفكير في مجتمع وتاريخ معينين، مما يجعلالعقل نشاطا تاريخيا ونِسبيا. وإذا كان التفكير العلمي يعمل على إنتاج وتطويرنظريات تُمكِّن من توصيف وتفسير الواقع، فإنه يستند إلى جملة من الإجراءاتالمنهجية التي تشتغل كمعايير تُميِّزه كتفكير خاص عن كل أنماط التفكير التي تقومعلى طرق أخرى متميزة.