إعلانات

ضع ماتريد هنا


فـرنســـا : قوة فلاحية وصناعية كبرى في الإتحاد الأوربي






فـرنســـا : قوة فلاحية وصناعية كبرى في الإتحاد الأوربي
مقدمة : : تعد فرنسا أول بلد فلاحي و ثاني قوة صناعية في الإتحاد الأوربي ، و رغم ذلك تعرف بعض الصعوبات .
- ما هي مظاهر و عوامل قوة الفلاحة الفرنسية ؟
- ما هي تجليات و أسباب قوة الصناعة الفرنسية ؟
- ما هي المشاكل و التحديات التي تواجه فرنسا ؟

 الفلاحة الفرنسية :

 مظاهر قوة الفلاحة الفرنسية :
* تساهم فرنسا بما يناهز ربع الإنتاج الفلاحي للاتحاد الأوربي محتلة بذلك المكانة الأولى أوربيا. وتعد ثاني مصدر للمنتوجات الفلاحية عالميا بعد الولايات المتحدة الأمريكية.
* تتفوق فرنسا على المستوى العالمي في إنتاج الحبوب والشمندر السكري والكروم والبطاطس ، وتمتلك قطيعا مهما من الخنازير والأبقار والأغنام.

 تحولات الفلاحة الفرنسية :
* عرفت الفلاحة الفرنسية خلال العقود الأخيرة تراجع المساحة المزروعة أمام التوسع الحضري ، وتناقص عدد المستغلات بفعل سياسة تجميع الأراضي، وانخفاض عدد الفلاحين أمام استخدام الآلات ( المكننة) ، و ارتفاع المردود الفلاحي بفضل تعميم استعمال التقنيات والأساليب الحديثة.
* شهدت الفلاحة الفرنسية تحولا آخر تمثل في الفلاحة البيولوجية وهي فلاحة لا تعتمد على المواد الكيماوية بل تستعمل مواد طبيعية وبالتالي تضمن جودة عالية للمواد الغذائية وتحافظ على البيئة.
* سجلت الفلاحة الفرنسية تحولات مجالية يمكن تصنيفها إلى نوعين:
- تحولات عميقة في بعض المناطق منها : بروطاني ، نورماندي ، الجنوب الشرقي والجنوب الغربي.
- تحولات ضعيفة في حوض باريس.

 عوامل قوة الفلاحة الفرنسية :
* ظروف طبيعية ملائمة تتمثل في انتشار السهول والأحواض الرسوبية ، وخصوبة التربة  ، وتنوع المناخ ( مناخ محيطي وشبه محيطي في الغرب والشمال الغربي-  مناخ شبه قاري في الشرق - مناخ متوسطي في الجنوب الشرقي ومناخ جبلي في المرتفعات).
* جهود الدولة الفرنسية لتطوير الفلاحة منها تقديم المساعدة للفلاحين و تشجيعهم على إنشاء تعاونيات ، وإقامة السدود والاهتمام بالبحث العلمي في المجال الفلاحي.
* اعتماد الفلاحة الفرنسية على تقنيات و أساليب متطورة.
* الاستفادة من السياسة الفلاحية المشتركة للاتحاد الأوربي .

 الصناعة الفرنسية :

 مظاهر قوة الصناعة الفرنسية :
* تساهم فرنسا بسدس الإنتاج الصناعي للاتحاد الأوربي محتلة بذلك المرتبة الثانية أوربيا و المرتبة الرابعة عالميا.
* تأتي الصناعة في المرتبة الثانية بعد قطاع التجارة والخدمات من حيث المساهمة في الناتج الداخلي وتشغيل اليد العاملة.
* تشكل المنتوجات الصناعية الجزء الأكبر من الصادرات الفرنسية.
* تساهم فرنسا بحصة مرتفعة في مشروع أريان الأوربي لصناعة معدات غزو الفضاء وفي برنامج ايرباص الأوربي لصناعة الطائرات. وتحتل مراتب جد متقدمة أوربيا وعالميا في صناعة السيارات والصلب والأسلحة والصناعة الكيماوية وصناعة المنتجات الرفيعة وصناعة المواد الغذائية.
  • تضم فرنسا عدة مناطق صناعية من أهمها منطقة باريس، ومنطقة الشمال (ليل Lille ) ، ومنطقة الألزاس واللورين( ستراسبورغ - نانسي) ، ومنطقة الجنوب الشرقي (مدينتا مارسيليا وليون)، ومنطقة نانت في الساحل الغربي  ، ومنطقة الجنوب الغربي ( مدينتا بوردو وتولوز)
  • في الفترة الأخيرة أصبحت الاستثمارات الصناعية تتجه نحو الساحل الأطلنتي والساحل المتوسطي وجنوب البلاد.

 عوامل قوة الصناعة الفرنسية :
* تدخلت الدولة في الاقتصاد عبر مراحل هي:
-  منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى 1982 شرعت الدولة في تأميم بعض الشركات ، و وضعت تخطيطا توجيهيا ، وعملت على إعداد التراب الوطني.
-   ما بين 1982 إلى 1986 : تابعت الدولة الفرنسية سياسة التأميم  ، واهتمت بمواجهة مخلفات الأزمة الاقتصادية العالمية الثانية .
-         مابين 1986 إلى وقتنا الحاضر : اتجهت الدولة إلى الخوصصة وذلك ببيع أسهمها ومؤسساتها الاقتصادية للقطاع الخاص.
* لعب القطاع الخاص الفرنسي دورا مهما في التطور الصناعي وذلك من خلال التركيز الرأسمالي لإنشاء شركات عملاقة، وعقد شراكة مع شركات أجنبية  ، والاستثمار داخل وخارج فرنسا وخاصة في البلدان النامية حيث ضعف تكاليف الإنتاج ووفرة المواد الأولية واليد العاملة.
* في ظل العولمة وسياسة الانفتاح ، استقطبت فرنسا رؤوس الأموال الأجنبية.
* تستفيد الصناعة الفرنسية من عوامل أخرى منها ضخامة عدد السكان وارتفاع الدخل الفردي ووجود بعض الثروات الطبيعية ( الأورانيوم والبوتاس والبوكسيت)

 المشاكل والتحديات التي تواجه فرنسا :

 المشاكل الاقتصادية :
* تشهد الفلاحة الفرنسية مشاكل يمكن تحديدها على النحو الآتي:
-    تضخم إنتاج الحبوب والشمندر السكري والحليب ومشتقاته ، مقابل نقص إنتاج بعض أنواع الخضر والفواكه.
- ارتفاع تكاليف الإنتاج الفلاحي ، وتزايد المنافسة الأجنبية ، وتراجع الدعم المخصص للفلاحين الفرنسيين في إطار السياسة الفلاحية المشتركة.
* تعرف الصناعة الفرنسية بعض المشاكل من أبرزها:
-   تراجع بعض الصناعات بسبب قدم التجهيزات .
-  غلبة المقاولات الصغيرة والمتوسطة وبالتالي ضعف صمود الصناعة الفرنسية أمام المنافسة الأجنبية.
-  قلة التخصص وبطء تأهيل اليد العاملة.
-  نقص إنتاج مصادر الطاقة والمعادن وبالتالي ضرورة الاستيراد.

 مشاكل الديمغرافية الاجتماعية :
-         الارتفاع المستمر لنسبة الشيخوخة بفعل تطبيق سياسة تحديد النسل.
-         ارتفاع تدريجي لنسبة البطالة بفعل مخلفات الأزمة الاقتصادية  الأخيرة.
-         تزايد نفقات الحماية الاجتماعية وخاصة معاشات التقاعد وتعويضات البطالة والمرض وحوادث الشغل.
-         انعكاسات سلبية للتوسع الحضري منها : تزايد الطلب على الشغل والسكن والخدمات والتجهيزات الأساسية.

 مشاكل التباين الجهوي والبيئة :
  • يمكن تحديد التباين الجهوي في فرنسا على الشكل الآتي :
- تمركز الثقل الاقتصادي في منطقة باريس والسواحل الأطلنتية والمتوسطية والحدود الشرقية ، مقابل ضعف الأنشطة الاقتصادية (وخاصة الصناعية ) في مناطق أخرى كالاردين البيريني Pyrenées
- تباين الأهمية الاقتصادية بين المدن الكبرى والمجال القروي.
- التناقض بين مركز المدينة وضاحيتها.
  • تشهد فرنسا وخاصة المناطق الأكثر تصنيعا تدهور البيئة الذي تتعدد مظاهره منها تلوث الهواء والمياه والسطح ، و المبالغة في استغلال الثروات الطبيعية.
 خاتمة :
رغم هذه المشاكل ، تظل فرنسا القوة الاقتصادية الثانية في الاتحاد الأوربي والرابعة عالميا.

شرح المصطلحات :
تخطيط توجيهي  : تصميم اقتصادي يكون إلزاميا بالنسبة للقطاع العمومي و اختياريا بالنسبة للقطاع الخاص .
الأزمة الاقتصادية العالمية الثانية  اندلعت سنة 1973 بسبب أزمة البترول المرتبطة بمخلفات الحرب بين الدول العربية وإسرائيل .
الصناعات العالية التكنولوجيا أو الدقيقة أو المتطورة :  من أبرزها الصناعة الإلكترونية و المعلوماتية ، و صناعة الطائرات و معدات غزو الفضاء .
القطب الصناعي : مركز للبحث وتطوير الصناعات العالية التكنولوجية .
التكنولوجيا الإحيائية : تقنية تستعمل قدرات الكائنات العضوية المجهرية في تطوير الفلاحة و الصناعة الكيماوية .

المفهوم الثالث: الحق والعدل مجزوءة III: السياسة حصري على أحلى باك




مجزوءة III: السياسة
 
المفهوم الثالث: الحق والعدل

* تقديم مفهوم الحق والعدل
عرفت المجتمعاتالإنسانية منذ القِدَم مشكلةَ توزيع الموارد والثروات التي تتميز طبيعيا بالندرة.فالواقع الإنساني موضوعٌ لنزاعٍ حَادٍّ يدور حول كيفية تقسيم ما يتم إنتاجه ومُراكمتهمن خيرات على مستوى مجتمع ما أو حتى على مستوى العالم كله، تقسيم يُمَكِّن من حفظ "النصيبالواجب" لكل طرف على نحو يسمح بالحديث عن نوع من "الحق" الذي ليسمجرد إقرار لواقع التفاوت على أساس القوة أو الامتياز، بل بالاستناد إلى قيمومعايير تتجاوز ما هو اعتباطي وتفرض نفسها كمبادئ وأصول لإقامة "العدل"الذي يجعل كل طرف يحظى بما يستحق على الوجه الذي يليق بكرامة الإنسان بما هو كائنعاقل له القدرة على بلورة سيرورة للتحكم في فاعليته على نحو قاصد وناجع.      
* الوضعية-المشكلة
يرتبط "الحق"و"العدل" بِنَسقِ القيم والمعايير الذي يضبط العلاقات التفاعلية فيمجتمع ما خلال فترة محددة، من حيث إنها علاقات قائمة على النزاع والتنافس بخصوصتوزيع الخيرات التي تكون مَحَطَّ اهتمام أعضاء المجتمع. فكيف يتحدد "الحق"؟هل يقوم على أساس ما هو طبيعي في الوجود الإنساني أم على أساس ما هو وضعي فيه؟ وماالعلاقة القائمة بين "الحق" و"العدل"؟ أيهما يُقَوِّم الآخر؟هل "الحق" هو الذي يُمثِّلُ أساس "العدل" أم العكس؟ وكيفيتحدد "العدل" في واقع الحياة؟ هل هو "مساواة" قائمة علىالتوزيع العام والمجرد أم أنه "إنصاف" يأخذ بما تقتضيه كل حالة فردية منمعاملة خاصة؟     
1- الحق بين الطبيعي والوضعي
* تحديد الإطار الإشكالي:ما هو الأساس الذي يقوم عليه "الحق"؟ هل هو طبيعي يتمثل في ما هو مشتركـوثابت بين الناس أم أنه وضعي يرتبط بما هو متعدد ومتغير في الحياة الإنسانية؟ هل "الحق"ثابت ومطلق أم أنه متغير ونسبي؟
* مفاصل المعالجة
يرى فلاسفة "الحقالطبيعي" (هوبز، إسـﭙـينوزا، لوكـ، روسو) أن الإنسان يتمتع، بمقتضى فرضية"حالة الطبيعة"، بـ"حق طبيعي" (droitnaturel)يُساوِي "الحرية المطلقة" التي تجعل الناس أحرارا ومتساوين بالطبيعة. ويتحدد"الحق الطبيعي" بكونه واحدا، ثابتا ومطلقا ؛ إنه الحق الذي يجعل بإمكان كلواحد أن يُوجَد ويَسلُكـ بحسب ما تقتضيه طبيعته. و"الحق"، بهذا المعنى،هو الذي يُوجَد في أساس إقامة "العقد الاجتماعي" الذي يبني"المجتمع المدني" كمجال لحفظ وحماية حرية وملكية الأشخاص بما هم أعضاء مُتساوُونبفضل القانون الذي يُجسِّدُ إرادة المتعاقدين.  
غير أن "الوضعانيةالقانونية" (le positivisme juridique) في استنادها إلى الواقع الفعلي تؤكد، خصوصا مع هانسكلسن (1881-1973 [HansKelsen])،أن ما يُسمى "الحق الطبيعي" يُعتبر مجرد وهم، لأنه يَفترض وجودَ طبيعةجوهرية للإنسان تتميز بالوحدة والثبات وتتعالى على الواقع التاريخي في تعددهوتغيره، في حين أن كل ما هو قائم في الحياة الفعلية للناس يتمثل في "الحقالوضعي" (le droit positif) الذي هو مجموعة من القواعد القانونية والقيمالأخلاقية التي يكون معمولا بها في مجتمع ما خلال فترة معينة. فـ"الحقالوضعي" أساس كل الحقوق التي يتمتع بها الناس، وهو خاضع في كل مجتمع لميزانالقُوَى الذي يؤدي إلى تعديله أو تجاوزه كلما دعت الحاجة إلى ذلكـ، ويتجلى على شكلمجموعة من المعايير التي تتراتب بشكل تنازلي انطلاقا من أسمى معيار (الدستور) إلىأدنى معيار (رخصة، عقد، شهادة)، حيث إن كل معيار لا تَثْبُت صلاحيته إلا بالنسبةللمعايير التي تُوجَد فوقه.   
وفيما وراء التعارض بينأنصار "الحق الطبيعي" وأنصار "الحق الوضعي"، فإن هناكـ اتجاهانحو الجمع بين كل منهما كما يتجسد ذلكـ في إعلانات حقوق الإنسان (إعلان الثورةالأمريكية 1786، إعلان حقوق الإنسانوالمواطن بُعَيْد الثورة الفرنسية 1792،الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة 1948)، حيث تم تأكيد "الحقوق الطبيعية والمقدسة" التي يتساوى فيهاالناس بِغَضِّ النظر عن عرقهم أو جنسهم أو دينهم أو لغتهم أو مستواهم الاجتماعي.وهكذا، فـ"الحق الوضعي" لا يُلْغِي "الحق الطبيعي" وإنما يعملعلى تنظيمه وتقنينه على نحو يجعله مُمْكنا بالنسبة إلى كل إنسان.  
* تركيب واستنتاج
يقوم "الحقالطبيعي" على ما هو طبيعي في الإنسان، باعتباره أساسا مشتركا بين كل الناس،وذلكـ بمقتضى ما أودعته الطبيعة في ذات الإنسان من كرامة تجعل الإنسان بفطرتهكائنا حرا وفاعلا. لكن كون "الحق الطبيعي" يستـند إلى طبيعة الإنسان(كمعطى جوهري ومطلق يتجاوز كل تحديد اجتماعي أو تاريخي) يقود إلى النظر في"الحق الوضعي" كما يتجسد في الواقع الفعلي، حيث لا يتم تعيين الحقوق إلاانطلاقا منه، الأمر الذي يُؤكِّد أن "الحق" لا يتحدد معناه إلا من خلالشروط اجتماعية وتاريخية متعددة ومتغيرة حسب المجتمعات والعصور. لكن الكونية التيتوجد في "الحق الطبيعي" هي التي تُؤسِّسُ إمكان التمييز بين حق وآخر، ومنثم فهي تتحدد كمعيار كلي وعام للحكم على "الحق الوضعي".       
2- العدل كأساس للحق
 *تحديد الإطار الإشكالي: ما علاقة "الحق"بـ"العدل"؟ أيهما يؤسس الآخر؟ هل "العدل" كواقع قائم فيمؤسسات وقوانين هو أساس "الحق" كمَثَل أعلى أم أن "الحق" فيمعياريته وكليته هو الذي يُمثِّل أساس "العدل" في جزئيته ونسبيته؟


* مفاصل المعالجة
يرى أرسطو (384-322ق.م [Aristote]) أن "العدل" في تضاده مع "الظلم" يتميز بكونه "التصرففي حدود القانون على النحو الذي يؤدي إلى حفظ حقوق الغير"، مما يجعل "الظلم"يتحدد كسلوكـ يُنافي القانون والمساواة، حيث إن الظالم يتصرف ضد القوانين. ومنهنا، فإن كل الأفعال المُوافِقة للقانون تُعَدُّ أفعالا عادلة. فالقوانين تضبطالأفعال بهدف حماية المصلحة العامة ومصلحة أولياء الأمور طبق ما تُوجبه الفضيلة.وهكذا فـ«الفعل العادل هو الفعل القادر، كليا أو جزئيا، على إيجاد أو حماية سعادةالجماعة السياسية» ؛ الأمر الذي يجعل "العدل" فضيلة كاملة، بل أهمالفضائل قاطبة، من حيث إنه أساس ضمان "الحق"، إنه أروع من كل شيءآخر.         
ويذهب أَلَان (1868-1951[Alain]) إلى أن "الحق" (le droit) يتميز بالأساس عن "الأمر الواقع" (lefait)،فلا يكون "الحق" إلا على أساس الاعتراف من طرف سلطة حاكمة تُعلِن علىالملإ أنه كذلكـ، فلا يكفي قيام وضع أو واقع للقول بأنه حق (مثلا امتلاكـ ساعةواستعمالها أو السكن في منزل مدة طويلة)، بل لا بد من حَكَمٍ عُمومي يُقِرُّ ويُعلنذلكـ "الأمر القائم". لذا فإن "الحق" يتحدد وفق نسق منالأشكال والاتفاقات المتعلقة بالمُعامَلات بين الناس على أساس "العدل".
وفي نفس السياق، يؤكد فريدريكـهايكـ (1889-1992 [Friedrich Hayek])أن العدالة الاجتماعية أو التوزيعية لا يكون لها معنى إلا على أساس الشرعيةالقانونية، وليس معنى هذا أن كل قواعد السلوكـ العادل القائمة في المجتمعات تُعَدُّقواعد قانونية ولا أن كل قانون يستند بالضرورة إلى قواعد السلوكـ العادل، وإنما هوأن القانون المرتكز إلى قواعد العدالة يكون له مقام استثنائي، بحيث إنه هو وحدهالذي يُلْزِم المواطنين ويفرض نفسه على الجميع في مجتمع حر.
لكن المفكر الروماني شيشرون(163-43 ق.م [Cicéron])يرى أنه ليس من المعقول في شيء اعتبار العدالة متمثلة فيكل ما هو مُنَظَّم بواسطة المؤسسات والقوانين كما هو الأمر عند معظم الشعوب، لأن هذايقود إلى قبول القوانين والمؤسسات المرتبطة بالطغاة والغزاة. ولهذا فإن أساسالعدالة ليس شيئا آخر غير "الحق" الذي يقوم على "الطبيعة"والذي يُشَرِّع تبعا لمقتضيات "العقل" القويم، بحيث يمثل القانون أوالمعيار الوحيد الذي يُمَكِّن من التمييز بين الخير والشر، وبين العدل والظلم، فيحين أن جعل المصلحة أساس "العدل" يُؤدي إلى تَغَيُّر الامتثال للقوانينبتغير المصالح. وهكذا، فـ«ما لم يَقُم الحقُّ على الطبيعة، فإن كل الفضائلتتلاشى». 
3- العدل بين المساواة والإنصاف
* تحديد الإطار الإشكالي:كيف يتحدد "العدل" في الواقع؟ هل هو "مساواة" قائمة علىالتوزيع العام والمجرد أم أنه "إنصاف" يأخذ بما تقتضيه كل حالة فردية منمعاملة خاصة؟    
* مفاصل المعالجة
يذهب أفلاطون (327-447ق.م [Platon]) إلى أن "العدالة" تتحدد، أولا، كـ"اعتدال" أو انسجامبين قُوَى النفس (الناطقة، الشهوانية، الغضبية) يُؤدي إلى الفضائل الثلاث: الحكمة،العِفَّة، الشجاعة. غير أن هذه الفضائل لا يُمكن أن تتحقق إلا على أساس قيام فضيلةرابعة هي "العدالة" التي تتمثل في انصراف كل واحد إلى فعل ما عليهالقيام به وفق ما زودته الطبيعة به من قدرات. وتُعَدُّ هذه الفضيلة أعظم أسبابالكمال في "المدينة" أو "الدولة"، لأنها تجعل كل واحد (منالأطفال والنساء والعبيد والأحرار والصُّنَّاع والحاكمين والمحكومين) يؤدي عملهدون أن يتدخل في عمل الآخرين. فـ"العدالة"، إذًا، اعتدالٌ بين قُوَىالمجتمع يجعل الاعتدال بين قُوَى النفس ممكنا.
ونجد أن أرسطو يرى أن"العدل" (la justice) و"الإنصاف" (l’équité) متماثلان من جهة طبيعتهماالنوعية  دون أن تكون لهما نفس الصفات. وعلى الرغم من أنكُلًّا منهما مرغوب فيه، فإن "الإنصاف" مُفَضَّلٌ على"العدل"، لأنه ليس مجرد حكم وفق ما يقتضيه القانون كقاعدة عامة، بل هو تناولُكل حالة بما تستحق بما هي حالة خاصة لا يكفي فيها الاعتماد على ما هو عام. لذا،فإن «الطبيعة الخاصة بالإنصاف تتمثل في تصحيح القانون، في المدى الذي يبدو غيركافٍ، بسبب طابعه العام. فالقانون لا يشتمل على كل شيء ».
غير أن ماكس شيلر (1874-1928[Max scheller]) يرى أن اعتبار العدالة كمساواة كاملةبين الناس في كل شيء يجعلها جائرة، لأنها تُؤدِّي إلى خَفْض الأشخاص المحظوظين إلىمستوى المحرومين الذين يوجدون في أسفل السُّلَّم. لذا، يجب النظر إلى العدالةكإنصاف يراعي الاختلافات والفروق بين الناس من حيث إنهم يتفاوتون فيما بينهم علىأكثر من مستوى، مما يجعل المساواة المنشودة تُعبِّر في الواقع عن نوع من الحقد تجاهالقيم العليا.
وفي نفس السياق، يرى جونراولز (1921-2002 [John Rawls]) أن النظر إلى العدالة كإنصاف يقتضيتوزيع الامتيازات بطريقة تضمن التعاون الإرادي لكل أعضاء المجتمع، وذلكـ باعتمادمبدأين مختلفين، يفرض أولهما المساواة في الحقوق والواجبات الأساسية، في حين يفرضثانيهما عدم المساواة اجتماعيا واقتصاديا. ويمثل هذان المبدآن قاعدة مُنْصِفَة تُمَكِّنالمحظوظين من أن يضمنوا تعاون باقي الشركاء من المحرومين الذين يجدون، بمقتضى مبدإتكافؤ الفرص، أنه بإمكانهم الاستفادة من نفس الحقوق الأساسية وبلوغ نفس المراتب.وهكذا، فإن العدالة "مساواة" تُـقِرُّ نَفْسَ الحقوق والواجبات بالنسبةلكل المواطنين، وفي الآن نفسه هي "إنصاف" يأخذ بعين الاعتبار الأوضاعالخاصة بالمحظوظين والمحرومين معا من دون الإجحاف في حق أي منهم.    
* تركيب واستنتاج
تُعتبَر العدالة مساواةًبين الناس في الحقوق والواجبات. لكن إقرار العدالة كمبدإ لتوزيع الخيرات فيالمجتمع يحتاج إلى النظر في الأوضاع الخاصة بمختلف الفئات بموجب قاعدة "الإنصاف"التي تُمَكِّن المحرومين من الاستفادة من الخيرات ولا تضع عوائق أمام المحظوظينذوي الامتيازات، وذلكـ على النحو الذي يُؤدِّي إلى تعاون الجميع لبناء العدالةكنظام اجتماعي مُنْصفٍ يضمن مصلحة كل الأفراد والجماعات في إطار نظام ديموقراطيعادل.

المفهوم الثاني: العنف مجزوءة III: السياسة حصري على أحلى باك




مجزوءة III: السياسة

المفهوم الثاني: العنف
 
* تقديم مفهوم العنف
يُعَدُّ الإنسان كائنا فاعلا إلى جانب أمثاله منالفاعلين في عالم يتميز بوفرة الشروط المتحكمة في كل إمكانات الفعل وبتعدد المصادرالدافعة إليه، سواء من جهة الوجود الجماعي للإنسان الذي يُوجب التفاعل أو من جهةالوجود الطبيعي المتفاوت في موارده ومُعطياته بشكل يستدعي النزاع والصراع. ولهذافإن الفاعلية الإنسانية مُوَلِّدة ومُنتجة لـ"العنف" الذي يتغلغل فيالحياة الإنسانية بِكُلِّ جوانبها ومستوياتها والذي يتشكل حسب مختلف ظروف الحياةالإنسانية على نحو يجعله ظاهرة معقدة تُفْلِتُ من كل تحديد. وهكذا، فإنه بنفسالقدر الذي يُشَكِّل "العنف" أحد مظاهر الفعل الإنساني، فإنه يفرض نفسهكأحد التحديات الكبرى التي تُواجه وجود الإنسان في هذا العالم.
* الوضعية-المشكلة
مارس الإنسان "العنف" عبر التاريخ بأشكالمتنوعة وبأقدار مختلفة، بحيث يبدو "العنف" مُلازِما للوجود البشري. فهليُعَدُّ "العنف" أحد الثوابت التي تُميِّز الطبيعة الإنسانية؟ ما هيأشكاله الأساسية وما أهميتها؟ ما علاقة "العنف" بالتاريخ الإنساني؟ هلهو أحد العوامل المُساهِمة في صنع التاريخ وتحقيق التوازن الاجتماعي أم أنه ليسسوى ظاهرة على هامش الأحداث التاريخية؟ كيف نُفسِّر استمرار "العنف" رغمتطور "المجتمع المدني" وقيام "الدولة"؟ هل يُعَدُّ كل عنف،بالتحديد، فعلا غير مشروع أم أن هناكـ أنواعا من "العنف" تحظى بمشروعيةاجتماعية أو قانونية؟
1- أشكال العنف
* تحديد الإطار الإشكالي: ما هي طبيعة "العنف"؟وما هي أنواعه وأشكاله؟ هل "العنف" واحد أم متعدد؟ وهل هو مرتبط بطبيعةالإنسان أم أنه لا يرتبط بالإنسان إلا في المدى الذي يُعَدُّ كائنا محددا بشروطاجتماعية وتاريخية؟
* مفاصل المعالجة
يرى "إيـﭪ ميشو" (1942-؟ [YvesMichaud]) أنه « يكون هناكـ عنفٌ إذا قام، في وضع تفاعلي معين،واحد أو مجموعة من الفاعلين بالتصرف بشكل مباشر أو غير مباشر، مرة واحدة أو بتدرج،على نحو يُلحِق الضرر بواحد أو أكثر من الأشخاص الآخرين بدرجات متغيرة، سواء علىالمستوى المادي أو على المستوى المعنوي، وسواء أتعلق الأمر بالممتلكات المادية أمبالخيرات الرمزية والثقافية». وكونُ "العنف" يتحدد بهذه الصورة يجعلهيتخذ أشكالا متعددة وأحجاما مختلفة عبر المجتمعات والعصور. فالمجتمعات الإنسانيةعرفت ولا تزال قيام أنواع متعددة من "العنف" تتراوح بين ما هو أكثرفظاعة وضرواة (كما في القتل خلال الحرب أو الإعدام أو التعذيب) وما هو أشد خفاء(سوء التغذية). كما أن العنف في ارتباطه بالمجتمع الإنساني يخضع لا فقط لمستوياتالتطور الاجتماعي والاقتصادي وإنما يخضع أيضا لدرجات التقدم العلمي والتقنيوللوسائل والآليات المترتبة عنه. وهكذا، فالعنف يزداد اتساعا وتعقدا تبعا لمختلفالتطورات التي تشهدها المجتمعات الإنسانية. وتُعَدُّ الفترةُ المعاصرة إحدى أشدالفترات عنفا في التاريخ البشري، وذلكـ على كل المستويات التي صارت تتجاوز الواقعلتـشمل كذلكـ الصور الخيالية والافتراضية.  
ومن ثم فإن "العنف" يتحدد كظاهرة اجتماعيةوتاريخية مسيطرة على الحياة الإنسانية، الأمر الذي يجعل "الإنسان ذئباللإنسان" كما يقول "هوبز" وكما يؤكد ذلكـ "سيغموند فرويد"(1856-1939 [Sigmund Freud]) الذي يرى أن النزوع إلى العدوان طبيعيٌّ في النفس الإنسانيةوأنه يُشكِّلُ العامل الرئيسي في علاقات الناس بعضهم مع بعض، حيث إن الأهواءالغريزية أقوى من الاهتمامات العقلية في واقع الحياة البشرية. ومن هنا فإن الحضارةتبذل كل ما في وسعها للحد من العدوانية الإنسانية سواء بتطوير مناهج تَحُثُّ الناسعلى إقامة علاقات تقارب ومودة بينهم أو بتقييد الحياة الجنسية. غير أن التدخلالقانوني والأخلاقي للمجتمع بدلا من أن يُؤدي إلى تقليص العدوانية في المجتمع فإنهيعمل، بما هو عملية قمع للنزوع الطبيعي، على تكريسها وزيادتها بشكل يجعلها تتخذتجليات أكثر حذرا وأشد خفاء. 
لكن "إيريكـ فروم" (1900-1980 [ErichFromm]) يُلاحظ أنه إذا كانت دراسة بعضالظواهر الاجتماعية (الحياة الجنسية، الطقوس) قد تُوحِي بأن النزعة التدميريةمتجذرةٌ في طبيعة الإنسان، فإن التحليل المتعمق لهذه الظواهر يكشف عن أن العدوانوالتدمير ليس مَيْلًا فطريا، وإنما هو حصيلةُ دوافع ونزوعات وثيقة الصلة بشروطموضوعية تتمثل في الحروب والنزاعات والتفاوتات الاقتصادية وضغوط الحياة الاجتماعيةوإكراهاتها، فـ« ليست الطبيعة البشرية نفسها هي التي تدفع فجأة إلى القيام بتلكـالممارسات، بل هناكـ طاقة تدميرية كامنة تُغَذِّيها الظروفُ الخارجية والأحداث المُفاجِئةفتدفعها إلى الظهور».
ومن جهة أخرى، يذهب "ﭙـيير بورديو" (1930-2002[Pierre Bourdieu]) إلى أن أنماط السيطرة الاجتماعية والثقافية من حيث إنها قائمةعلى أُسُسٍ تُعتبر، من الناحية الاجتماعية، اعتباطيةً (arbitraire)، فإنها ترتبط بممارسة نوع منالعنف "الرفيق" أو "اللطيف" (uneviolence douce) هو"العنف الرمزي" (la violence symbolique) الذي هو كل عنف يتلقاه الفاعلالاجتماعي بالقبول أو التجاهل كما لو كان طبيعيا أو بديهيا بفعل نَوْعٍ من التواطؤالوجودي الذي يجعل البنيات الذهنية/الذاتية تتوافق مع البنيات المادية/الموضوعيةللعالَم الاجتماعي. فكونُنَا نُولَدُ ونُنَشَّأُ في مجالٍ اجتماعيٍّ أمرٌ يجعلُنانتقبل عددًا من الأشياء التي تفرض نفسها علينا بتلقائية وسهولة من دون أن تحتاجإلى عمل إضافي للترسيخ، مما يُشكِّلُ أساسَ السيطرةِ التي يخضع لها الفاعلونالاجتماعيون، ليس كما لو كانت حتمياتٍ تنزل من أعلى بِثِقَلها الإكراهي المُحدِّدلإراداتهم، وإنما كنسق من التفاعلات والتوازنات بين المُحدِّدات الحتمية الموضوعيةوكيفيات إدراكها بواسطة البنيات الذاتية، مما يجعل الفاعلين يُسْهِمُون في إنتاجما يُمارَسُ عليهم من آثار السيطرة ضمن مجالهم الخاص. ومن هنا فإن العنف الرمزييرتبط بالنظام العادي للأشياء في الواقع الاجتماعي، الأمر الذي يجعله أشدَّ أنواعالإقناع السِّرِّي التي تُمارَس على الفاعلين الاجتماعيين بتواطؤٍ منهم بفعلانغماسهم الطبيعي في المجتمع.        
* تركيب واستنتاج
يتعلق "العنف" بفاعلية الإنسان في ارتباطهابشروط الواقع الاجتماعي القائم على التفاوت والصراع، مما يجعل "العنف" مُلازِماللوجود الإنساني في خضوعه لعددٍ من الإكراهات الضرورية التي تتحكم في إمكاناتالقوة لدى الناس كأعضاء في مجتمع والتي تُوَجِّهُها، من ثم، في سياق تفاعليوتنازعي على نحو يؤدي إلى بُروز أشكال من "العنف" تتخلل التاريخوالاجتماع الإنسانيين.
2- العنف في التاريخ
* تحديد الإطار الإشكالي: كيف يتجلىالعنف عبر التاريخ الإنساني؟ هل هو أحد أسباب الصيرورة التاريخية أم أنه ليس سوىإفراز محدود على هامش حركة التاريخ الإنساني؟
* مفاصل المعالجة
يعتبر "توماس هوبز" أن الطبيعة الإنسانية تقومعلى ثلاثة انفعالات تمثل الأسبابَ الحقيقية لكل نزاع في الحياة والتاريخالإنسانيين: يتعلق الأمر بـ"التنافس"، "الحذر" و"الكبرياء"؛ فـ"التنافس" يجعل الناس يتخذون الهجوم طريقا لبلوغ مصالحهم،و"الحذر" هو الوسيلة لضمان أمنهم، في حين أن "الكبرياء" تؤديإلى حفظ السمعة. وكل هذه الانفعالات ترتبط باللجوء إلى العنف إما للسيطرة علىممتلكات الآخرين وإما للدفاع عن النفس والممتلكات. ومن حيث إن هناكـ دائما احتمالَالتعرض للهجوم والعنف من طرف الآخر، فإن الناس يعيشون دائما (حتى في حالة السلموالأمن) أجواء الحرب من خلال الاستعداد لها وتوقعها باستمرار. وهكذا نُدرِكـ أهميةالحرب في التاريخ الإنساني من جهة ارتباطها بالطبيعة البشرية في قيامها على النزاعوالقوة. 
وتقوم الفلسفة الماركسية (مع ماركس وإنغلز) على أنالصراع يُشكِّل المُحرِّكـ الأساسي في التاريخ الإنساني، ذلكـ بأن الوجودالاجتماعي قائم على التفاوت بين الذين يملكون وسائل الإنتاج والذين لا يملكون سوىقوة عملهم، وهو التفاوت الذي يؤدي إلى انقسام المجتمع إلى طبقات متضادة ومتصارعة،حيث إن تاريخ الإنتاج يتجلى كسلسلة من التناقضات المادية والاجتماعية التي ترتبطبصراعات طبقية (بين الأحرار والعبيد في الطور العبودي، بين السادة والأقنان فيالطور الإقطاعي، بين مالكي وسائل الإنتاج والعمال الكادحين في الطور الرأسمالي)تقوم بين المسيطرين والمضطهدين على شكل حروب تنتهي إما إلى تغيير جذري للمجتمعوإما إلى تحطيم الطبقتين كلتيهما. ومن هنا فإن الجدل التاريخي يلعب فيه الصراعدورا رئيسيا، حيث إن الانتقال من طور إلى آخر لا يتأتى إلا باحتدام الصراع بينالطبقات المتصارعة على نحو يُمَكِّن من إحداث التغيير الضروري في البنياتالاقتصادية والاجتماعية.    
ويذهب "روني جيرار" (1923-؟ [RenéGérard]) إلى أن المجتمعات الإنسانيةقائمة على الصراع الذي يرتبط بعوامل التنافس التي تجد أصلها في الرغبات المتفاوتةفي تعلقها بنفس الأشياء التي هي موضوع للطلب من طرف الآخرين. ويتميز العنف فيالحياة الإنسانية بأنه يستند إلى آلية المُحاكاة التي تجعله عُنْفًا مُعْدِيًاقابلا للانتشار بشكل تلقائي، مما يُؤَدِّي إلى وجود أعمالِ عُنْفٍ يُمكن أن تتسلسلبلا نهاية على نحوٍ يُهَدِّدُ استمرار وبقاء النوع الإنساني. من هنا تأتي الطقوسالمتعلقة بـ"التضحية" (le sacrifice) كآلية لإيقاف دورة الانتقام في دُوَّامة العنف، حيث يتم نقلالعداء إلى ضحية واحدةٍ (كبش الفداء) تحمل كل الرغبات المتناقضة والمتنافسة لأعضاءالمجتمع. وهكذا يتم توجيه العنف إلى الضحية كتعويض عن العنف الذي يمكن أن يُوَجَّهإلى الآخرين، بحيث يتأتى التأسيس الاجتماعي للعنف المقدس كما عرفته كل المجتمعاتالإنسانية من خلال طقوس التضحية بـ"كبش الفداء".   
* تركيب واستنتاج
يحضر "العنف" في التاريخ الإنساني بأشكالمختلفة وبشكل قوي وبارز، مما يقود إلى اعتباره أحد المظاهر المُمَثِّلة للصيرورةالتاريخية على مُختلف مستوياتها. وإذا كانت المجتمعات الإنسانية شهدت ولا تزالمختلف أنواع الصراع العنيف، فإن تجليات "العنف" في التاريخ البشريمتعددة ومعقدة على نحو يجعلها موضوعا لتأويلات مختلفة تربطها بآليات التطورالتاريخي أو بآليات التفاعل الاجتماعي في علاقته باستعدادات الطبيعة البشريةوتحولات الوسط الطبيعي والثقافي حيث تتم فاعلية الإنسان.

3-العنف والمشروعية
* تحديد الإطار الإشكالي: ما علاقة "العنف"بكل من "الحق" و"القانون"؟ هل كل عنف يُعَدُّ، بالتحديد، غيرمشروع من الناحية الأخلاقية والقانونية أم أن هناكـ بعض أنواع "العنف"المقبولة والمشروعة اجتماعيا وقانونيا؟
* مفاصل المعالجة
إن قيام "المجتمع المدني" يستوجب تفويض أمراستعمال العنف للسلطة المشروعة كما تمثلها "الدولة". ولهذا يؤكد ماكسﭭـيبر أن "الدولة" لا يُمكنها أن تُوجَد إلا إذا خضع الناس للسلطة المشروعةكما تتجسد في التجمع السياسي الذي تُمثِّلُه والذي يجعلها تحتكر استعمال العنفالمشروع بمقتضى أنها مجموعةٌ من المؤسسات التي تقوم على "الشرعيةالقانونية" والتي تُوجِّهُها غاياتٌ تتمثل في ضمان "المصلحةالعامة" لمجموع أعضاء المجتمع. وبالتالي فإن "العنف" في إطارالمجتمعات الحديثة لا يكون مشروعا إلا انطلاقا من "الدولة" كمؤسسةسياسية وقانونية تضمن قيام المجتمع المدني والسياسي كتجمع يعمل على تنظيم أعضائهعلى نحو يجعلهم يقتنعون بأن من مصلحتهم نبذ العنف، حيث إن تَمَتُّعَهُم بكل حقوقهميقتضي بالأساس انخراطهم السِّلْمِي والمدني في إطار النمط الحديث لممارسة السلطةأو السيطرة الذي يقوم على "الشرعية القانونية" التي تضمن هي وحدهاالمساواة في الحقوق والواجبات بين كل المواطنين والتي تسمح بالتداول السلمي للسلطةوفق مجموعة من القواعد والإجراءات كما يتمثل ذلكـ في نموذج التنظيم الديموقراطيللمجتمع السياسي.    

وثمة من يذهب إلى حَدِّ اعتبار العنف غير مشروع بتاتا،سواء أتى من "الدولة" أو من "المجتمع المدني"، لأنه يقوم علىاستعمال القوة الذي لا يمكن تسويغه من الناحية الأخلاقية. فالإنسان، في نظر غاندي،"روحٌ" تسمو على "المادة" من حيث إنه كائن أخلاقي يسعى إلىالفضيلة ويتجنب الرذيلة. وتتمثل الفضيلة في الوقوف ضد الشر ليس بمواجهته عن طريقمقاومته بالقوة المادية وإنما بمقاومته بواسطة قوة روحية تتمثل في فعل ما هو خيرمن خلال تبني إرادة طيبة تجاه كل كائن حي بمحبته ومصادقته. فـ"اللَّاعُنف"يتحدد كغياب تام لكل إرادة سيئة تجاه الأحياء بدافع الحقد أو الكراهية، ومن ثم فهوليس نزوعا سلبيا أو استسلاميا، بل إنه سعي نحو المناهضة الأخلاقية للشر بكل مظاهرهمن دون إلحاق الأذى بواحد من الأحياء. ومن هنا فإن القوة الحقيقية تتمثل فيالتعامل الإيجابي مع الآخر من الأحياء وتجنب إيذائه أو إيلامه.     
* تركيب واستنتاج
يبدو أن ممارسة "العنف" في إطار المجتمعاتالحديثة أصبحت موكولة إلى "الدولة" التي صار من حقها هي وحدها أن تضطلعبمهام حفظ الأمن والسلم وحماية الحقوق بكل الوسائل الممكنة في إطار ما تسمح بهالشرعية القانونية. لكن تركيز "العنف" بين يدي "الدولة" لايعني، في الغالب، اجتثاثه من كل زوايا المجتمع المدني، حيث إنه يستمر بأشكالونِسَبٍ تكثر أو تقل حسب المجتمعات، وذلكـ إلى الحد الذي يؤدي إلى التشكيكـ فيجدوى مواجهة "العنف العشوائي" للخارجين على الشرعية بـ"العنف المشروع"لمؤسسة الدولة. فبدلا من تقليص "العنف" في المجتمعات بواسطة التنظيمالسياسي والقانوني، شهدنا على امتداد القرن العشرين حروبا عالمية وإقليمية طاحنةومدمرة، بل حتى على مستوى المجتمعات المتقدمة يُلاحَظ ازدياد مظاهر "العنف"على كل المستويات. وإذا كانت حركات اللاعنف والسلام تتوسع عبر بلدان العالم كنوعمن الحركات المضادة، فإن التجذر التاريخي والاجتماعي للعنف يجعل مثل هذه الحركاتضربا من الطوبى التي تُؤْمِن بأن "نسيم الحب يُمكن أن يطعن السيف بِوَرْدَةٍ"كما يقول الشاعر. لكن العنف المتجذر تاريخيا وثقافيا في كل المجتمعات يحتاج لا فقطإلى مقاومةٍ ماديةٍ ومعنوية، بل إلى تأسيس واقعي لآليات تصريف العنف سواء كانماديا أو رمزيا ومن دون الوقوع في وهم أن "العنف" يكفي لاستئصاله تأكيدعدم مشروعيته القانونية أو الأخلاقية، إذ لا عنف أشد من تَوَهُّم أن العنفيُعَدُّ، بالتحديد، غير إنساني وأنه لا يمكن أن يكون ثمة عنف أخلاقي علىالإطلاق.